ياسمين







كان الوقت ليلاً و القمر  أرسل ضوءه الفضي الجميل منيراً سطح تلك العمارة الكائنة بأحد شوارع المعادي و قد أخذت نسائم الصيف تداعب الياسمين المنتشر في أرجائه مرسلاً شذي عبق الجو برائحة تتفتح لها النفس و تهفو إليها الروح . 
هناك ، وقف يوسف سانداً مرفقيه إلي السور متاملاً القاهرة التي لا تنام ، ما بين أُناس الليل اللاهين ، الساهرين في الشوارع و البيوت حتي بزوغ الفجر و بين أولئك المنتظرين لذلك الفجر حتي يبزغ معلناً بدء يوم جديد . 
كم ألف ألف حكاية تحتويها تلك البيوت...
 كم ساهر الليلة يفكر في حب مكتوم .. و كم متألم بجرح ليس يبين ..
كم غافل نسي أن يقدر من أحبوه حقا .. 
و كم غاضب و حزين لم يدركوا أن الحياة اقصر من أن نضيعها في لحظات الشقاء .. 
شعر لوهلة .. أن الانسان يضيع من عمره الكثير في انتظار اللحظة المناسبة برغم أنه لا يعلم إذا كان سيحيا ليري الغد ..
لطالما أحب الصعود الي هنا للتأمل وحده ..
أو مع ياسمين جارته و رفيقة صباه، أمه و أمها بنات عم و صديقات ، فجمعت بينهما القرابة و الجيرة فكانا كأخوين لا يفترقان، دائما كانت مستودع اسراره و محل ثقته و إعزازه ......

" اللي واخد عقلك " 

نظر خلفه فوجدها ياسمين و قد علت وجهها إبتسامة جميلة فقال :
- ياريتني إفتكرت مليون جنيه .. كنتي لسة علي بالي
- يا بختي ، يا بختي ، جيت علي بال يوسف بيه شخصيا
 فابتسم ضاحكاً من قولها و قال :
- بلاش لماضة و قوليلي طالعة ليه ؟ إنتي مش مسافرة باريس بكرة ... !
- ما أنا بمناسبة السفر قلت أديلك دي .

و مدت يدها إليه بعلبة حمراء متوسطة الحجم ملفوفة بشريط ذهبي عريض ، فنظر إليها متسائلاً و قال :
- إيه دي ؟ هو أنا عيد ميلادي النهارده و أنا نسيت و لا إيه ؟!
- لاء يا خفيف ، البوكس دي مني ليك بشرط إنك ماتفتحهاش غير بعد مسافر
- إشمعني ؟
- هو كده ، إوعدني إنك مش هاتفتحها غير بعد مسافر

هز كتفيه متعجباً و قال :
- ماشي ، زي ماتحبي
فأعطته العلبة و قالت :
- أروح أنا بقي ، عشان رايحة أشتري شوية حاجات
عقد حاجبيه مستاءً و قال مستنكراً :
- دلوقتي ؟؟
- دلوقتي إيه ! لسه الساعة 8 ، و أنا أصلاً هاجيب شوية حاجات من المعادي هنا و جايه علي طول

زفر في ضيق و قال :
- متأخريش ، نص ساعة و تبقي هنا
زمت شفتيها مانعة إبتسامة من الظهور و قالت :
- حاضر

ثم أخذت حقيبتها و إنصرفت، فأخذ ينظر إلي العلبة الحمراء بفضول و يده تعبث بالشريط الذهبي و كأنها تحاول فكه عن غير عمد. أراد أن يتمسك بوعده لها بألا يفتحها حتي تسافر ، فتركها و ذهب يري هل وصلت ياسمين الي الشارع أم لا . 
و ما إن وقع بصره علي الطريق حتي وجدها تمشي في خطي مسرعة و خلفها شابان يطلقان كلمات بذيئة و يضحكان بصوت عالي. 
قفز من مكانه و إندفع ينزل السلالم كالصاروخ و ما إن وصل إلي الشارع حتي كانت هي قد بدأت تتواري عن ناظره عند ناصية قريبة و أحد الشابان يحاول أن يمد يده ليمسك حقيبتها و قد إزدادت خطواتها سرعة. 
أخذ يعدو بكل قوته لاحقاً بها و عندما وصل إليها كان أحدهما يحاول التقرب منها فكال له لكمة أودعها كل قوته فأسقطته أرضاً ثم إلتفت إلي الثاني متعاركاً معه و كل ذلك و ياسمين واقفة ترتجف بجانب الحائط ثم رأت ذلك الذي وقع علي الأرض ينهض و في يده مدية محاولاً طعن يوسف من الخلف و دون أن تدري دفعت يوسف من أمامه فإحتل جسدها ذلك الفراغ و إندفعت المدية تشق بطنها فاطلقت صرخة مدوية و سقطت علي الارض و قد تفجرت الدماء منها. 
لاذ الشابان بالفرار و إندفع يوسف إليها ملتاعاً، فحملها علي ذراعيه و ضمها إلي صدره و قد فقدت الوعي، أسرع بها إلي سيارته و وضعها بجانبه ، مزق قميصه و وضعه علي جرحها محاولاً وقف النزيف ثم أدار السيارة و إنطلق في سرعة جنونية إلي أقرب مستشفي و ما إن وصل حتي حملها و إندفع بها إلي الداخل و هو يصرخ في هلع :

" دكتور بسرعة"

أسرع إليه طبيب و معه ممرضتان فحملوها عنه و أسرعوا بها و هو خلفهم حتي دخلوا غرفة العمليات. و ما إن غابت عن ناظره حتي شعر بأن ساقيه لم تعودا قادرتين علي حمله، فإنهار إلي الأرض ذاهلاً و هو لا يشعر إلا بلزوجة الدم علي يديه و لا يسمع إلا الصرخة التي أطلقتها قبل أن تسقط و دموعه تغرق وجهه و القلق يثور في صدره .....

ظل علي حاله حتي خرج إليه الطبيب بعد نحو ساعتان أو ثلاث ، فإندفع إليه صائحاً :
- عاملة إيه يا دكتور ؟
زفر الطبيب الشاب في عمق و قال:
- الحمد لله ، لحقناها علي آخر لحظة ، بس هي لسه في مرحلة الخطر .... إدعي الأربعة و عشرين ساعة الجايين دول يعدوا علي خير .....

و قبل أن يرد يوسف عليه ، رن تليفونه ..
 يا إلهي ، لقد أسرع إلي المستشفي و أنساه الهلع أن يخبر أهله و أهلها بما حدث!
رد علي أمه و حكي لها ما حدث ، فأقفلت معه و قد سيطر عليها الهلع و الإرتياع و لم تمض نصف الساعة حتي كانت الأسرتان عنده و ما إن رأته أم ياسمين بهذا الشكل و الدم منتشر علي ملابسه حتي صرخت في فزع،  لكنه أسرع إليها محاولاً طمأنتها مخبراً إياها بما قاله الطبيب ....

جلسوا جميعاً مطرقين و قد إنسابت دموعهم بلا توقف، و بعد مضي بعض الوقت طلب منه والد ياسمين أن يذهب إلي المنزل لكي يرتاح قليلاً و يبدل ملابسه، رفض رفضاً باتاً و لكن إزاء إصرار الرجل وافق أن يذهب ليبدل ملابسه علي أن يعود إليهم.

كانت الساعة قد جاوزت الواحدة صباحاً حينما دخل إلي الشقة الغارقة في الظلام، إغتسل و بدل ملابسه و لكنه لم يستطع أن يجلس بالشقة أكثر من ذلك و شعر بحاجة إلي الهواء فصعد إلي السطح و ما إن وصل إليه حتي وقعت عيناه علي العلبة الحمراء فلم يستطع كبح دموعه التي إنسابت من عينيه. 
إحتضن العلبة بين يديه و قد إشتم فيها شذي ياسمين فهاج الألم في صدره قاتلاً إياه، لم يستطع أن يمنع يداه اللتان إمتدتا ببطء و أخذتا تفكان الشريط الذهبي و تفتحان العلبة و كأنه فقد كل سيطرة عليهما ......

فتح العلبة ، فوجد داخلها أشياء متفرقة لا يجمع بينها سوي أنها كلها هدايا كان قد أهداها لياسمين في مناسبات مختلفة .... 
فهذا الدبدوب كان قد إشتراه لها منذ شهر..
و هذه اللعبة أول هدية أحضرها لها و هي في العاشرة من عمرها
 و ... ياه ..
هذه الوردة ، أمازالت تحتفظ بها !
 لقد أعطاها لها منذ نحو سنتين أو ثلاث، كانت أول وردة تزهر من نبتة كان يزرعها...

ظل يتنقل من غرض إلي آخر و الذكريات تتدفق علي رأسه بلا إنقطاع، ثم وجد ورقة مطوية بعناية في قاع العلبة ففتحها و أخذ يقرأ :

" يوسف ، ترددت كثيراً قبل أن أكتب إليك رسالتي هذه ، و لكنني منذ علمت أن أيامي في الدنيا أصبحت معدودة لم أستطع أن أمنع نفسي من أن تبوح بالسر الذي لطالما أخفيته عنك ... نعم ، أيامي في الدنيا أصبحت معدودة ، فقد إكتشفت منذ شهر أن ورم خبيث يسكن صدري و بذلت كل جهدي لأخفي عنك ذلك لأجنبك ألماً لا تستحقه، و رحلتي إلي باريس لم تكن للسياحة و إنما للعلاج . سأُجري عملية ، إن نجحت ، قد أعيش لبضعة أشهر أخري و ربما سنة أو إثنتان... 
أرجوك لا تحزن و لا يشغلنك هذا عن قراءة بقية رسالتي فليس هذا هو السر الذي أخفيته عنك .. 
و إنما سري الذي أخفيته في صدري و كتمته في قلبي فلم يعلم به مخلوق ..
هو إني .... 
أحبك ... 
نعم أحببتك دائماً و أحبك و سأظل أحبك حتي آخر نفس يتردد في صدري...
أقولها لك الآن بملء فمي .. 
أحبك ، أحبك ، أحبك ... 
أحب عينيك و أنفك و شفتيك ، أحب إبتسامتك اللذيذة ، أحب صوتك الدافئ ، أحب لمستك الحانية...
 أحبك حين تضحك و حين تغضب و حين تقرن حاجبيك متصنعاً الغضب و حين ترفعهما مندهشاً من تصرفاتي المجنونة أحياناً... أحب حنانك و طيبتك و رجولتك الحقة ...
أحب كل تفصيلة صغيرة متعلقة بك .... 
أحبك، أحبك ، أحبك ....
 أأكثرت من قولها ..؟
 إغفر لي فقد حبستها في صدري سنين طويلة ، أفلا أقولها الآن بضع مرات ...!
 إغفر لي إسهابي في الحديث و إطالتي الكلام فأنا لا اشعر أني مع ذلك قد نقلت لك ذرة من إحساسي بك و حبي لك.
 يوسف ...
 أرجوك لا تحزن فليس أصعب علي نفسي و لا أقسي علي قلبي من أن أشعر بك حزيناً و أرجوك لا تحاول الإتصال بي في باريس لأني لا أريد أبداً أن يأتي اليوم الذي أسمع فيه نبرة الإشفاق في صوتك علي ....... 
مهما طال الكلام فلابد أن ينتهي ، و في نهايته أقولها لك صدقاً ، أني سأظل ما بقي من عمري القصير أذكر أحلي أيام عمري التي قضيتها معك ....
ياسمين "

أنهي الرسالة و قد سالت دموعه كالحمم علي وجهه ، أحس بإحساس غريب .... 
و كأن رسالتها أيقظت قلبه و أشعلت النار في حنايا صدره ، الآن بعد أن كاد يفقدها شعر أنه لا يستطيع الحياة بدونها، أحس أنه يحبها ، يحبها حباً لا تسعه القلوب و لا تكفي الكلمات للتعبير عنه. 
لن تذهب...... ستكافح من أجله، من أجل حبهما، سيعوضها عن كل ما ضاع من عمرها. 
لم يستطع أن يظل جالساً في مكانه فأسرع إليها، لم يشعر بنفسه و هو يركب السيارة و ينطلق بها إلي المستشفي...
لم يعد يشعر إلا بحبه لها و قلبه الذي يود أن يخرجه من صدره و يهديه لها أبخس هدية...
 سار مسرعاً في طرقات المستشفي حتي وصل إلي الدور الذي توجد به العناية المركزة ، فسمع أصوات بكاء و نحيب...
 صرخ من أعماقه ، لا ، لا، لا، ليس الآن ، ليس الآن ..... 
إنقلبت خطواته المسرعة عدواً .. 
لا تتركيني ، ليس الآن .. 
و ما إن رآه أخوه قادماً حتي أسرع إليه و إحتضنه فصرخ فيه :
- إيه اللي حصل ؟
- خلاص ..
- لاء ، لاء ، ياسمييييييييييين
أطلق صرخة رددت طرقات المستشفي صداها..
 صرخة أنين و ألم ...
ألم ينشر نفسه بلا رحمة و يكاد يمزق أوصاله... 

دفع أخوه بعيداً و أسرع إليها...
 لا تتركيني أرجوك ، ليس الآن ، لن أستطيع الحياة بعدك ... 
أمسكوا به و أخوه يصيح:
- ماتعملش في نفسك كده يا يوسف

و عندما سمعت الممرضة إسمه ، أسرعت إليه قائلة :
- حضرتك يوسف ...؟

إلتفت إليها في حدة ،فأكملت قائلة :
- هي قبل ما تتوفي ، فاقت 5 دقايق و مسكت إيدي و قالتلي 
" قولي ليوسف ما يزعلش " 
و بعديها توفت.




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي