لم يعد لديك ما تخسره






أحيانا يستغرقنا الحزن و الألم و المصاعب التي أنهكتنا حتي نصل إلي قاع قاسي مكتوب عليه بخط عريض ..
لم يعد هناك ما نخسره ..
لقد خسرنا بالفعل كل شئ ..
لم يعد باقيا ما نخسره ..
رويدا رويدا .. نبدأ ندرك أننا صرنا نعيش بين الناس لكننا لا نحيا حقا ..
نشرب .. نأكل .. نتنفس .. لكن دون حياة ..
في هذه اللحظة بالذات التي تواجه فيها اقصي آيات فشلك ..
تبرز الحكمة التي قالت يوما .. "الحياة اختيار"
الآن لم يعد لديك ما تخسره ..
ألم تدرك بعد ..
إنها أفضل حالة يمكنك أن تصل إليها ..
يمكنك ببساطة ان تختار بداية جديدة .. لن تخسر شيئا لأنك بالفعل لم يعد لديك ما تخسره ..
بإمكانك أن تغامر مرتاح البال ..
أن تخاطر و تقامر علي النجاح دونما خوف ..
خوف من ماذا .. من الفشل ..؟؟
لا فشل .. أنت بالفعل في القاع و اي خطوة أخري لن تقودك إلا إلي الأعلي..
ألا يكون لديك شئ لتخسره يعني ببساطة أنه لديك كل شئ لتكسبه ..
اخرج من القاع الذي تمكث فيه الآن و استعد لبداية جديدة ..
لأن الحياة اختيار ..
اختار أن تقاوم ..
لأنك ببساطة إما أن تخرج من القاع بنجاح ..
أو بدرس كان يستحق السقوط من أجله ..

احتضنها .. و بكي







"احتضنها .. و بكي"

كالأطفال انقبع في ركن الغرفة منطويا علي ذاته ...

رأسه مختبئة بين رجليه بعنيان مبللتان تماما علي شفا الغرق ..

علي شفا الغرق في أحزانه .. في حيرته .. في مصيره ..

احتضنها ..

احتضنها ..

احتضنها طويلا طويلا كأنما نام عاما كاملا بين ذراعيها ..

تلك الدقيقة التي احتوته فيها بعطرها و أنوثتها و دفئها .. كانت عمرا

عمرا مديدا من السعادة و الشغف و الحب و .. عمرا من الحياة في كينونتها ..

مازال حتي هذه اللحظة في حضنها لم يغادره ..

لعله انقبع في هذا الركن خوفا من مجري الحياة أن يشده و يجذبه إلي الدوامة التي تبتلع كل شئ .. و تغير معالم اللحظات القيّمة ...

ليته يستطيع تجميد هذه الذكري و هذا الاحساس ليظل باقيا علي الدوام ..

ليس من حقنا ..

همست بها في أذنه في حزن كبير كبير كبير ..

انهارت دفاعاته أمام حزنها ..

و غرق في ألمه ..

قبلها بلحظات .. علي أعتاب أنفاسها بكي قلبه ..

تحجرت الدموع في عينيه و فاضت أنهار الشجن داخله ..

لم تملك إلا أن تحتضنه ..

قوة هائلة دفعتها إلي ذلك بإرادة مسلوبة ..

سلبها حزنه العميق الدفين ..

يا طهري و ملاكي كيف يكون حضنك ذنبا ..

كيف يقف مجتمع ضخم قاسي عريض ما بين صدري و احتواءك ..

لو كنت أملك أن أهرب بك إلي حيث لا يعرفنا أحد لكنا ببساطة أصبحنا معا ..

لببساطة كنتي أصبحتي زوجتي ..

ليس الله ما يقف بيننا يا حبيبتي ..

إنه المجتمع ..

حنين





نظرت حنين إلي عقارب ساعتها التي التقت عند الساعة الثالثة عصرا بينما تدخل بخطوات خفيفة شبه راقصة كافيتريا المطار و جلست إلي الطاولة الوحيدة الخالية بإبتسامة جميلة تشع سعادة و لهفة كالأطفال...
ها هي اليوم قادمة لتستقبل خطيبها و حبيبها بعد طول غياب، كم هي صعبة نار البعد و ولع الاشتياق ... كم أوحشها صوته .. نظرة عينيه .. لمسة يده الحنونة .. ابتسامته الجميلة و ضحكاته التي تنير حياتها...
إنها لا تدري كيف إحتملت مدة غيابه السابقة...
كيف أمكنها أن تتنفس هواء لا يحمل عطر انفاسه أو تستسيغ طعاما حلوا دون أن يشاركها إياه ..
كيف لها أن تستمتع بأي منظر جميل أو قطعة موسيقية دون مشاركته الحميمة لها في كل التفاصيل ..
لكنها لن تدع ذلك يتكرر أبدا .. هذا فوق احتمالها ..
هذه المرة لن تدعه يغيب هكذا، لقد أصرت في آخر مكالمة لها معه لها أن يعقدا قرانهما في نهاية هذا الاسبوع، و بعد ذلك إن أراد أن يسافر فسوف تتبعه حتي آخر العالم إن شاء........
إتسعت إبتسامتها أكثر و فاض الحنان من عينيها و هي تتذكر آخر لقاء لها معه قبل أن يسافر . لقد بكت في ذلك اليوم قدر ما بكت طوال عمرها، و أخذت ترجوه ألا يسافر فهي لا تحتمل أن يبتعد عنها يوماً أو يغيب عن ناظرها لحظة.
راعه بكاءها و إنفطر قلبه لمرأي دموعها و لم يملك إلا أن يمسح دموعها بيديه في رقة  و يحتضن كفيها الصغيرين في حنو بالغ و هو يخبرها أنه لن يغيب عنها طويلاً و أن روحها ستكون معه أينما يذهب، و أنها إذا ما إشتد بها الشوق يوماً إلي رؤيته فلتذهب إلي معبد حبهما المقدس في تلك البقعة النائية علي ضفاف النيل .. و لتفكر فيه ، فلسوف تجد روحه حاضرة هناك دائماً تحوطها بحبه و حنانه.....
إنها تذكر تلك الليلة كما لو كانت البارحة ، فهي علي الرغم مما شعرت به يومها من ألم الفراق فإنه لم يمر بها قط ليلة أحلي من تلك الليلة... فقد تدفقت فيها مشاعرهما بمنتهي الصدق و الإخلاص و الحرارة حتي ذاب قلبيهما و امتزجا في روح واحدة ثملة بنشوة الحب و اغداقه ...
قطع أفكارها صوت موسيقي تنبعث من الطاولة المجاورة لها ، فإذا برجل عجوز قد رفع صوت مذياع صغير في يده لكي يتمكن من السماع جيداً فتدفق منه صوت نجاة العذب يشدو ...
"كل غنوة حب فيها حاجة منك ....
كل نسمة فجر بتكلمني عنك..... "
شعرت بالكلمات الممزوجة باللحن الرقيق تنساب عبر روحها و تضئ قلبها بأرق المشاعر و أحلي الاحاسيس ، فقد أعادت لها الأغنية ذكري ذلك اليوم الذي سمعتها فيه و كان قد مضي علي سفر حبيبها اسبوعاً كاملاً تقلبت فيه علي جمرات الشوق ، فأهاجت فيها مشاعر الحنين .. و لم تجد منفذاً من المشاعر التي تضنيها سوي أن تكتب ما يعتمل داخلها من نيران الشوق في ورقة وجدتها أمامها.
ترقرق الدمع في عينيها و هي تتذكر ذلك اليوم.... فتحت حقيبتها و أخرجت منها تلك الورقة ، فهي كانت قد أحضرتها معها لتريها له دليلاً علي مدي عذابها في بعده ، تنهدت تنهيدة حارة قوية ... لم تلبث أن فتحت الورقة و اخذت تقرأ :
" حبيبي ..
أين أنت مني .. اين صوتك الدافئ الذي يحتويني و يشملني و يضمني في ألف ألف حضن لألف عام من المشاعر ..
أتعلم ... حينما تكون قربي و بقايا وجودك الرجولي الجميل و تفاصيلك حاضرة في حياتي ، أشعر كأن نارا دافئة منيرة أوقدت في قلبي باعثة فيّ حب الحياة و السعادة و الشغف و الأمل ..
و أكتفي بك عن كل العالم خارجك ..
و حين تبتعد ... أظل أحيا علي ذكري وجودك حتي تبدأ تلك النار في الخفوت قليلا قليلا حتي لا يبقي منها سوي جمرات خافتة تنبض في همس تحت الرماد منادية باسمك ...
أين انت مني ..
كيف استطعت ان تبتعد ..
لا .. لا تحزن فوالله ليس ذلك مني طعنا في مقدار حبك بقدر ما هو تعجب من مقدار تحملك و أنا التي لحظت انطلقت بالطائرة بعيدا رفرف قلبي وراءك كعصفور صغير منزوع الريش فقد عشه و امانه ..
حبيبي .. يا أماني و ملاذي .. يا أحلي ما أنعم الله به عليّ ..
يكفي ابتعاد و حرمان .. عد إلي .. إلي حبيبتك التي لا حياة لها بدونك ..
عد لتحميني من ألمي و وحدتي بعدك .. عد إليً .. فلا أهل و لا أحباب دونك ..
أين انت مني .. يا حبيبي ؟"
أنهت قراءة الورقة و قد سالت دموعها ، فحاولت أن تتشاغل عما بها ...
نظرت إلي الساعة فوجدتها قاربت علي السادسة و النصف فإندهشت.... إن الطائرة كان من المفترض أن تصل في الخامسة، فكيف لم تأت حتي الآن.... ؟!!
نادت النادل و سألته عن ذلك فأخبرها أن هذه الرحلة أُلغيت بسبب سوء الأحوال الجوية...
 شعرت بالدنيا تميد تحت قدميها و بخنجر يطعن أحلامها في قسوة فيتركها اشلاء مشتتة...
مضت لحظات لم تنبس خلالها ببنت شفة و كأنما فقدت القدرة علي النطق
ببطء إستجمعت قواها و غادرت....
بعينان ساهمتان بشرود في اللا شئ ..
بتثاقل في خطوتها و تهدل في كتفيها ...
و الحزن حفر اقسي آياته علي وجهها ...
كانت عينا الرجل العجوز الجالس بالقرب منها تراقبانها منذ دلفت إلي المكان و حتي إنصرفت ، فإندهش لحالها و تعجب ، و أحس بفضول لكشف غموضها، فنادي النادل و سأله:
-        مال هذه الفتاة ، دخلت بخطوات راقصة و تفاؤل سعيد و انصرفت بهم الدنيا كله فوق كتفيها؟
هز النادل رأسه في حزن و أسف و هو يجيب :
-        مسكينة ..... فمنذ ثلاث سنوات ، في نفس هذا اليوم ، كانت تنتظر وصول خطيبها ، و لكن الطائرة التي كان عليها هَوَت و تحطمت و لم يجدوا جثته فإعتبروه مفقوداً.....
و من يومها ، و هي تجئ كل سنة في نفس اليوم و الساعة تنتظر وصوله عله يأتي ... إلي أن أُخبرها أن الطائرة لن تجئ فتنصرف مكسورة القلب و الخاطر 

http://www.facebook.com/Hendiiaa

قلب الأنوثة





"الأنوثة"

إن أول ما يتبادر إلي ذهنك بمجرد رؤية كلمة "أنوثة"
هو الفتنة الطاغية و الدلع و الدلال ..
لكن ...
هل اعتقدت يوما أن حنو و اعتناء الأمومة هو  قلب الأنوثة ..
النساء الجميلات الفاتنات .. كثيرات ..
لكن الاناث .. عن حق .. قليلات
الأنثي التي تمتلكك و تجتاحك و تحتلك بلا منازع ..
تلك التي تستحق قصيدة في وصفها ..
و مقطوعة موسيقية تعزف جمالها ..
يكاد يكون من المستحيل أت تتصف تلك الأنثي بالجمال و الفتنة فقط ..
دائما ما تجد فيها الذكاء العاطفي المتوقد ..
الشغف الحنون في كل ما يتعلق بك ..
الرغبة المجنونة أن تتسرب إلى دماءك و تختلط بكرياتك البيضاء و الحمراء...
الخوف الغريزي الذي يجعلها ترغب أن تحميك كما لو كنت ابنها .. قطعة منها ...
المسامحة .. ثم المسامحة .. ثم المسامحة ..
القلب الشفوق العطوف الانساني الذي يتقبل أخطاءك و يعفو عنها و يمسح غضبك و لو منها ...
الحنو الذي يحتوي عصبيتك و جنونك .. و ينتظرك حتي تهدأ لتستكين في حضن أمومتها الدافئة ..
ليست الانوثة أبدا بعض الغنج و الدلال ..
فمهما طال الزمن ..
البشرة الناعمة و الوجه النضر و الشعر الناعم الجميل ... سيذهبون جميعا عنها ..
تاركين فقط ذلك الذي ينبض بين جنباتها ..
حنو و اعتناء و فتنة الأمومة ..
قلب الأنوثة ..

دور الكلاكس .. في تحقيق الريلاكس





أصبح من المستحيل الآن أن تخاطر بالنزول إلي المعركة اليومية المسماة بالشارع دون أن تصيبك عدوي الكلاكس ...
و هي عدوي مفرطة التأثير .. عدوانية .. عصبية .. تصيب الانسان بإحباط و غضب تجعله بدوره لا يكف عن اطلاق الكلاكس ...
لم يعد صوت تنبيه السيارة المسمي ب (الكلاكس) وسيلة لتنبيه السيارات ..
بل اصبح وسيلة لتنبيه الآخرين لوجودك في هذا العالم .. أقصد الشارع ..
وسيلتك لتنفث عن كبتك .. عن غضبك .. وسيلتك  لتثبت أمام نفسك أنك تسيطر علي مقاليد الأمور .. و انك الاسرع و الأهم ..
وسيلتك لمشاركة كل احباطاتك النفسية و ضغوط الحياة اليومية مع بقية خلق الله ..
الذين بدورهم يستجيبون لعدوي مشاعرك السلبية و يبدأون بدورهم في التنفيث عنها بمجاراتك في اطلاق الكلاكسات .. بصورة مستفزة و مثيرة للاعصاب .. و اعلي و أكثر تسرعا .. حتي تجن انت ايضا و تخرج عن ثباتك الانفعالي و تشتمهم بالكلاكس ..
فيردون بشتائم اقبح في صورة كلاكسات أكثر طولا و غلظة و إثارة للانفعال ...
و وسط هذا الهرجان من المشاعر السلبية ..
يبدأ ذلك السائر علي قدميه في فقد أعصابه كلاكس وراء الآخر ..
فتتحول شبه الابتسامة - إن وجدت- إلي وجه صامت جامد .. ثم انعقاد في الحاجبين .. و تكشيرة في الجبين .. ثم استخدام للصوت البشري العادي في الصراخ بطريقة اقرب للكلاكس ...
و هكذا نظل ندور في دائرة لا تنتهي من تفريغ الانفعالات عن طريق الكلاكس بحقن الآخرين بشحناتك السلبية  .. حتي تنتهي منها تماما فتعود شخص هادئ و ريلاكس ...
و لكن في الواقع .. ذلك لا يحدث ابدا !!!
 لأن مشاعرك السلبية التي تحاول التخلص منها (يا ناصح) .. تعود إليك أطنانا من كلاكسات الآخرين .. و استفزازهم و احباطاتهم و ضغوطهم .. !

إن النزول إلي الشارع في اي وقت اصبح لعنة حقيقية عليك أن تتجنبها قدر المستطاع حتي لا تصاب بعدوي الكلاكس ..

و النصيحة الأخيرة التي يمكنني ان أعطيك إياها .. ضع أعصابك في ثلاجة علي درجة 100 تحت الصفر حتي تتجاوز بسلام محنة الكلاكس .. و يمكن ..
يمكن .. قد .. يعني
تصل إلي حالة الريلاكس ...

الشيخ قال ..






استلقت علي الأريكة أمام التليفزيون تاركة شعرها مفرود خلفها علي الوسادة في حرية و هي تتابع بشغف الفيلم الأجنبي الذي تصاعدت أحداثه الرومانسية ..
لم تلبث أن سمعت تكة المفتاح في باب الشقة .. ثم سعال قوي من حنجرة أبوها ...
أسرعت تعتدل في جلستها و أغلقت التلفاز ...
دخل عليها بذقنه الطويلة و مسبحته حول أصابعه ..
ألقي عليها نظرة و هو يقول ..
"ماذا تفعلين .."
هزت كتفيها أن لا شئ ..
تأملها لحظات بعينين ضيقتين ثم قال متوجها إلي حجرته ..
"أنا داخل أنام و لمي شعرك دا بلاش مياعة و قلة أدب .."
نكست رأسها للأرض في غيظ ..
كل شئ ممنوع .. ممنوع .. حتي شعرها لم ينجو من تحكماته ..
دخلت حجرتها بعدما أيقنت ألا سبيل أمامها لتكمل متابعة الفيلم ..
أغلقت الباب وراءها ..
تنفست الصعداء ...
أخيرا بعض الحرية ..
بخطوات متسللة توجهت ناحية أدراجها الصغيرة و أخرجت قلم كحل قصير كانت ابتاعته بمصروفها ...
ترددت قليلا .. ثم فكرت ..
لا بأس .. أنا سأضع قليلا منه في البيت فقط ..
الشيخ قال مادام في البيت مش حرام ...
كان لديها فزع طفولي من كل التابوهات التي خلقها أبوها حولها و أحاطها بنيران جحيم العصاة التي أكثر أهلها من النساء ...
ستة عشر عاما و هي تتجرع كل المحرمات .. و التحكمات حتي صارت تخاف إن تحرك ظلها دون إذن أبوها أن تدخل النار لذلك ...
تجاهلت حديث نفسها و بسعادة مراهقة مرت بقلم الكحل علي عينيها ..
ابتسمت في خجل للحلاوة التي أسبغها عليها ..
تأملت عيناها الواسعتان المكحلتان و الغمازتين الجميلتين علي خدها في سعادة ...
تطلعت لنفسها قليلا ثم أحكمت تضييق التيشيرت حول جسدها و أخذت تخطر قليلا أمام المرآة ضاحكة في حياء أنثوي زادها فتنة ..
ضحكة انقلبت صرخة خافتة حين فجأة انفتح الباب و دخل منه أخوها ..
نظر لها شذرا بذقنه القصيرة ثم اقترب منها محدقا و بنبرة صارمة مخيفة قال لها ...
"إيه دا .. انتي اتجننتي .. إيه اللي انتي عاملاه في نفسك داااا "
واتتها جرعة شجاعة فردت عليه ..
"و انت مالك .. إزاي تدخل أوضتي من غير متخبط .."
"كويس إني عملت كدا يا هانم عشان اشوف المسخرة اللي بتعمليها من ورا أبوكي .."
جفلت في فزع حين قال ذلك .. ثم همهمت في رعب خافت ..
الشيخ قال مادام في البيت مش حرام ....
لم يسمعها و هو ينادي بصوت عالي علي أبوه الذي خرج من حجرته علي صوته ..
و ما إن رأي وجه ابنته المورد الخدين و عيناها المكحّلتين .. حتي اتسعت عيناه و في صرامة اقترب منها و قد جمدت في مكانها من شدة الرعب ..
و بكل عزمه هوي علي وجهها بقلم من يده الغليظة ..
ثم صرخ فيها جاذبا إياها من شعرها ..
"ميت مرة .. قلت حراااااااااااام ... حرااااااااااام و لا إنتي مبتسمعيش ...
عايزة تدخلي النار و تدخليني معاكي يا بنت ال***
قاعدة بتتقصعي قدام المراية و تتمايصي و تعصي كلامي و كلام ربنا ...
أديني دقني لو شفتي الشارع تاني .. مادام بتعملي كدا في البيت .. أنا إيه اللي عرفني بتعملي إيه من ورايا ..."
كانت أنفاسها المتقطعة من شدة البكاء و الألم و المهانة لا ترد حتي قذفها بعيدا بطول يده و خرج متوعدا .. مغلقا الباب عليها بالمفتاح...
و بكل رعب الستة عشر عاما ..
بكل الفزاعات الدينية التي فجرها الموقف ...
انهارت منقطعة الانفاس علي الأرض تئن في ألم و ما تنفك تردد في هيسرتيا ..
الشيخ قال مادام في البيت مش حرام ...

كلام فارغ







طاولة مستديرة في النادي علي طرفاها جلسا .. متباعدين ..
هو يلوك بين أسنانه "خلة" رفيعة .. فيما اتكأ علي كرسيه في جلسة مريحة توحي بمعدة ممتلئة ... بينما أصابعه تتنقل علي أزرار تليفونه المحمول و نصف ابتسامة يجاهد لكي يخفيها تلعب علي شفتيه ..
هي .. كما هي دائما .. و كما ستظل دائما .. صامتة .. ساكنة .. محدقة في الفراغ بملل ..
بطرف عينها لمحت ابتسامته المختفية و باشمئزاز نظرت بعيدا عنه ..
يحسب أنها لا تدري أنه يكلم هذه و تلك و يحدثهم بالساعات علي الانترنت ..
غيرة .. !
لا تحسب أنها غارت عليه أبدا .. إنما ثارت فقط لكرامتها المهدورة ..
اشتكت لأمها التي ردت بجملة قصيرة من نوعية ...
"كل الرجالة كدا"
يا ليتها لم تقل شيئا ..
لم تعد للموضوع مرة أخري و تعايشت كأنه لا يحدث ..
قطع شرودها قفزة صبيانية عنيفة في حضنها من ابنها الذي أنهي لتوه تدريب الكاراتيه الخاص به ..
تلقفته بسعادة .. احتضنته طويلا .. كأنما تترجي طفولته أن تذهب عنها نيران الغيظ التي تتآكلها ..
انشغلت به تماما عن ذلك الذي لم ينتبه حتي لمقدم ابنه سوي بنظرة ألقاها عليهما كأنه يتأفف من الضوضاء ..
بلهجة باردة وجههتها له قائلة ..
"أنا هروح عند ماما شوية النهارده"
لم يكلف نفسه عناء الرد عليها و اكتفي بهزة رأس موافقة ..
تناولت حقيبة ابنها من علي الكرسي و انطلقت معه ...
كلما ازدادات ردودها برودا كلما اشتعلت براكينها أكثر ..
لم تعد تطيق معه الحياة ..
لم تعد تحتمل رأئحة فمه المعبقة بالسجائر و هو يقترب منها ..
و لا خلته المقززة التي لا تفارقه ..
كل تفاصيله الصغيرة تزعجها ..
كذبه الذي يصدقه هو وحده .. و يصدق معه كم هي ساذجة ..
فترات الصمت الطويلة ..
و الوحدة التي سكنتها ..
ليس من حل سوي الانفصال ..
بلعت ريقها و هي تنظر إلي ابنها الوحيد و قرة عينها ..
لتقول اللفظ الصحيح إذن .. "الطلاق" .. هو حلها الوحيد ..
هم ثقيل جثم علي أنفاسها ..
"مطلقة" .. تلك الكلمة الغولة التي يخيفونني بها دائما .. و يقربون مشعل نيرانها من وجهي ليطردوا الفكرة من رأسي ..
نفس عميق في عزم .. ثم رددت .. سأفعلها اليوم ..
كانت وصلت بيت أهلها منذ وقت ..
نزلت و في يدها ملاكها الوحيد ..
استقبلتها أمها بالأحاديث المعتادة .. و الحكاوي الكثيرة التي انتظرت أن تنهيها كلها ثم ببطء ألقت قنبلتها ..
"أنا عايزة أطلق ..."
كمن تنظر إلي مجنونة بارتياع حدقت فيها أمها غير مصدقة .. و بنبرة عالية حازمة ..
"إيه الكلام الفارغ دا .. مسمعوش تاني أبدا .. مفيش حاجة اسمها تطلقي .. انت اتجننتي .. الناس تقول علينا إيه .."
بحزن صمتت .. لا فائدة ..
لابد و أن تحترم ما سيقوله الناس .. عليها أن تسمع كلامهم و تخضع لرقابة ألسنتهم ..
بدون كلمة ..
أخذت ابنها و ذهبت ..
دخلت شقتها بمفتاحها الخاص ..
بالطبع لم يعد حتي الآن ..
فتحت التليفزيون فوجدت البطل التركي يصرخ في ابنته قائلا ..
" انتي جنّتي .. كيف بتعملي هيك .. انت مرة مطلقة"
بسخرية مريرة ذات لهجة شامية .. علقت ..
" مش أحسن ماكون مرة ميتة"

الفصل الأخير






انطلقت دينا ذاهبة للمطار تاركة وراءها كل صخب الحياة داخل قاعة كتب الكتاب في المسجد، كان أصدقاء نور و ياسين و أقاربهما يحيطون بهما و يحتفلون احتفالا صاخبا دام أكثر من ساعة بعد انتهاء عقد القران، بعدها انطلقت العائلة لباخرة لطيفة ترسو علي ضفاف النيل ليكملوا احتفالهم هناك.
جلسوا جميعا علي طاولة كبيرة طويلة امتدت لتجمعهم جميعا عليها،  جلس ياسين و بجانبه نور في منتصفها و هما لازالا يتلقيان التهاني ممن حولهما.
و ما إن غفلت عنهم الأعين لحظات حتي استغلها ياسين و مال علي أذنها هامسا:
أعددت لكِ مفاجأة الليلة
التفتت إليه بسعادة و قالت بصوت عالي:
الآن !! ما هي
وضع اصبعه علي فمه و قال هامسا و هو يضحك:
فضحتيني .. لا ليس الآن .. استئذنت جدي أن آخذك بعد الحفل لأريك إياها يا زوجتي العزيزة
احمر وجهها خجلا و رنت إليه في سعادة و همست في أذنه:
سأنتظر علي أحر من الجمر يا زوجي العزيز
كان ياسين لا يطيق انتظارا علي الانفراد بنور و الذهاب بها إلي حيث مفاجئته... كان لا يطيق انتظارا أن يبثها كل حبه و شوقه و سعادته المجنونة التي يشعر بها الآن.
فما إن انتهي الحفل حتي أخذها منهم سريعا وسط ضحكات الجميع المتغامزة، و ما إن ركبا السيارة حتي قالت نور ضاحكة:
مجنون، إذا كنت متعجل هكذا الآن.. ماذا ستفعل يوم الفرح
لن أذهب أصلاَ
ضحكت و تمتمت مجددا " مجنون" ثم أكملت:
مجنون و لكني أعشق جنونك و أعشق كل ما بك يا زوجي يا حبيبي
اتسعت ابتسامته لكلماتها الجميلة الصادقة و انتبهت هي للطريق الذي يأخذه فقالت:
أين نحن ذاهبون
نظر لها بخبث ثم قال:
مصرة تعرفي
طبعاااا
شقتنا
نظرت إليه بتعجب:
نعم!!! و أين شقتنا هذه التي لم نشتريها بعد !
ضحك من تعبير العجب علي وجهها و قال:
ما هذه هي المفاجأة ... لقد اشتريت الشقة التي سنسكن فيها و سأنهيها بأسرع ما يمكن لنقيم الفرح و تدخلي بيتي يا حبيبتي
صفقت بأيديها كالأطفال في سعادة:
ياسين، أنا لم أتوقع مطلقا ... إنها أجمل مفاجأة!
لم تمض بهم نصف ساعة و كانوا قد وصلوا.
كانت عمارة جميلة تطل علي شارع رئيسي، صعدا معا حتي الدور الخامس حيث تقع شقتهما... دخلا فأضاء ياسين اللمبة الوحيدة الموجودة بالشقة و المتدلية من سقفها بسلك رفيع.
 دخلت نور فذهب ياسين ليقفل الباب، التفتت إليه ثم ضحكت، نظر لها متسائلا فقالت:
كدت أقول لك لا تغلق الباب ثم تذكرت أنك أصبحت زوجي
ابتسم ابتسامة واسعة جميلة ثم جذبها من يدها ليريها الشقة، كان الضوء خافتا و لكن الشقة كانت باهرة الجمال بالنسبة لهما فما كان الضوء ينبعث من لمبة متدلية من السقف و لكن من قلبيهما الذين أضاءا بالسعادة و الحبور.
جالا فيها قليلا و هما يرسمان خطوطها بخيالهما حتي وصلا إلي الغرفة الرئيسية، فقال ياسين بابتسامة عريضة و عينان لامعتان:
و هنا غرفة نومنا
تدفقت حمرة الخجل لوجنتيها من طريقة كلامه، فقالت مخرجة له لسانها في محاولة لمداراة خجلها:
وحشة
رفع ياسين حاجبيه و هو ينظر لها مبتسما و قال:
بالعكس .. قمر
علمت أنه يقصدها فلم تستطع فرارا من نظراته سوي بالخروج من الحجرة مسرعة لتخفي ابتسامتها، و قبل أن تخطو خارجها وجدته يمسك يدها... توقفت لحظة فشعرت بيده دافئة تحتضن كفها الصغير و أصابعه تتخلل أصابعها الرقيقة التي تاهت في خطوط كفه.. قربها إليه أكثر ثم رفع يدها إليه و قبّل أطراف أصابعها ثم قال همسا و هو يمر بأصابعه مرا رقيقا علي باطن كفها:
أتعرفين أني أحفظ رسم كفك و أصابعك الجميلة... إني لم أر في حياتي يدا بهذه الرقة و اللين حتي لأخاف أحيانا أن تتفتت بين يدي الخشنة القوية
شعرت بنفسها تذوب من وقع كلماته التي زادها صدقا أنفاسه الحارة القريبة منها... فتحت فمها لتقول شيئا و لكن وجدته يقترب منها أكثر و يقول:
أتسمحين لي؟
و قبل أن تسأله بم تسمح أو تجيب سؤاله، كان قد اقترب منها أكثر و أكثر حتي شعرت بأنفاسهما اختلطت و امتزجت... ثم مد ذراعيه حولها...
و احتضنها ...
كأنما كهرباء سرت في جسدها فارتجفت لقربه و احمر وجهها حتي صار في لون قان ساخن من شدة الخجل الذي استولي عليها...
احتضنها بدفء و حنان طاغ... بكل العشق الذي ملك عليه قلبه...
احتضنها.. بقدر ما أخفي في باطنه حبها.. بقدر ما اشتاق لها ليال طويلة خالية منها
تيبست و سرت قشعريرة بطول ظهرها من حضنه القريب الدافئ ..
شعر بها... فمسح بيده علي ظهرها بهدوء و ثقة.. بحنو شديد ..
بدأت ترتخي بين ذراعيه.. فزاد من احتوائه لها..  شعر بخدر لذيذ يسري فيهما و قد بدأت هي تلف ذراعيها حوله..
 فجأة رن تليفونه المحمول، فأفاقت مما أصابها من خدر و جفلت و ابتعدت عنه قليلا و هي تقول بصوت مبحوح رقيق:
ياسين... تليفونك
لعن ياسين في سره ذلك المتصل و هز كتفيه أنه لا داعي أن يجيب و لكن نور أصرت فتناوله من جيبه فكان عمر الذي قال:
ياسين... أين أنت؟
تحركت في نفسه مشاعر الغيرة و الضيق و رد بغيظ:
أنا مع نور يا عمر
ضحك عمر ضحكة عالية و قال:
يبدو من صوتك اني اتصلت في وقت غير مناسب اطلاقا
فعلااااا ... ماذا تريد يا عمر؟
أنا فقط كنت أريد أن أسألك إذا كنت ذاهب إلي العمل غدا لأن سيارتي تعطلت و كنت أريد أن توصلني إلي الشركة في طريقك، أنا و انجي سنبقي عند أهلي اليوم
حاضر يا عمر.. لكن سننزل في السابعة لكي لا أتأخر أنا
لا تقلق.. أتركك مع عروسك اذن
شتمه ياسين بصوت منخفض لكي لا تسمعه نور فضحك عمر و أغلق.
التفت ياسين لنور التي وجدها قد أمسكت حقيبتها الصغيرة و استعدت للرحيل، فاقترب منها و قال برجاء:
نور ... لن ننزل الآن..
أجابته بصوت منخفض حنون:
دعنا نذهب الآن ... أنا معك العمر كله
ثم قبلته علي خده قبلة خاطفة و أسرعت تخرج من الشقة نازلة السلالم، اتسعت ابتسامة عريضة علي شفتيه و قد امتصت قبلتها كل غيرته و ضيقه و أعادته مرة أخري للأحاسيس الحلوة التي عاشاها ثم تبعها بعد أن أغلق الباب وراءه.
في الصباح التالي، استيقظ ياسين مبكرا عن ميعاده ساعة لكي يوصل عمر في طريقه و بمجرد أن نزل وجد عمر ينتظره بجانب السيارة و هو يقول بابتسامة حلوة:
صباح الخير يا عريس
خير !! منك لله يا عمر .. أفسدت علي اللحظة أمس و أيقظتني باكرا
ضحك عمر و ركب السيارة هو و ياسين، و لم تمض نصف ساعة حتي كان قد وصل الشركة.
كان الوقت مازال مبكرا و لم يحضر بعد معظم الموظفين، فقرر أن يخرج بعض الملفات القديمة و يراجعها حتي يستطيع أن يفهم أكثر نظام الشركة و حساباتها.
كان قد مضي عليه أقل من شهر و لكن بدأ يستوعب العمل بسرعة لتشابه نظام الشركة مع تلك التي كان يعمل بها في دبي.
و فيما هو يقلب في الملفات وجد دولاب مقفل و بداخله ملفات كثيرة، فنادي العامل ليحضر له المفتاح..
اضطرب العامل قليلا ثم قال:
يا أستاذ عمر، أستاذ فريد وحده هو الذي يملك مفتاح الدولاب و هو وحده الذي يعمل علي ما فيه من ملفات
استغرب عمر ردة فعله و خامره احساس أنه لابد و أن يعرف أي ملفات هذه التي يغلق عليها بمفتاح مع شخص واحد، و اذا كانت بهذه الخطورة فلابد أن يطلع عليها .. إنها شركة جده قبل كل شئ و لا يوجد من هو أحرص علي مصالح جده منه.
نصف ساعة و كان الأستاذ فريد وصل، رجل متوسط الطول يناهز الأربعين من عمره و يلبس نظارة كبيرة علي وجهه. جلس علي مكتبه فتوجه له عمر قائلا:
أستاذ فريد من فضلك، كنت أريد مفتاح هذا الدولاب
رفع حاجبه مندهشا و قال:
 لماذا؟
أريد أن أراجع ملفات العمل القديمة حتي أفهم نظام الشركة أكثر
هذه .. هذه ليست قديمة .. يعني إذا كنت تريد ذلك سأعطيك ما تريد من ملفات
استغرب عمر ردة فعله المنزعجة مما دفعه للاصرار قائلا:
و لم ليس ما في هذا الدولاب ؟!
هب أستاذ فريد واقفا و قال منفعلا:
لأن هذا الدولاب من اختصاصي وحدي و باسم بيه أوكله إلي شخصيا
ثم ليس لأنك حفيد عبد الرحمن بيه يكون لك الحق في التعدي علي اختصاصاتي
ثم خرج من المكتب صافقا الباب خلفه، عقد عمر حاجبيه غاضبا مما فعله فريد و شعر أن هناك شئ مريب و كأنه لا يريد له أن يطلع علي ما هذه الملفات ثم عقد العزم علي أن يفتح هذا الدولاب و يخرج ما فيه ليستريح قلبه.
أما فريد فانطلق إلي مكتب باسم، دخل عليه فأشار له باسم أن يجلس ثم قال فريد:
هناك مشكلة يا باسم بيه؟
رد باسم باهتمام:
ما هي ؟
أستاذ عمر يريد أن يفتح الدولاب الذي توجد به الملفات التي عدلناها
عقد باسم حاجبيه و قال:
و لماذا تحتفظ بالملفات أصلا؟  ألم أقل لك أن تنزلها علي الكمبيوتر
باسم بيه ، أنت لم تخبرني بأمر المبالغ المقتطعة لحسابك الخاص إلا منذ فترة قصيرة و كنت أحتفظ بالملفات بصورة مؤقتة حتي أستطيع أن أفصل المبالغ الخاصة بك عن تلك الخاصة بالشركة
ظل باسم صامتا قليلا، لم يكن ينقصه إلا عمر ليأتي و يفسد عليه خططه.. لقد قارب الانتهاء من انشاء شركته الخاصة و لكن لازال يحتاج إلي بعض الوقت و النقود، لذلك فهو معتمد كل الاعتماد علي الصفقة القادمة و وجود عمر و تعسفه الذي لا مبرر له هذا سيفسد عليه كل ما عمل و كد من أجله....
قطع عليه فريد أفكاره قائلا:
باسم بيه، ماذا ستفعل؟
أحضر هذه الملفات لمكتبي.. و لكن غدا .. ليس اليوم لكي لا يشك في شئ
حسنا، إذا كان هذا ما تريد.
ثم قام فريد منصرفا و عاد إلي مكتبه، دخل و جلس كأن لم يحدث أي شئ، بينما عمر جالس يتآكله الغيظ مما فعله فريد منذ قليل لكن قرر ألا يوجه إليه أية كلام مرة أخري.
انشغل عمر في ما تحت يده من عمل و كان قد عزم في قرارة نفسه علي ألا ينصرف قبل فريد حتي يجد طريقة يعرف بها ما بداخل الدولاب من ملفات.
ظلا الاثنان جالسان و كأنهما في مباراة من ينهار أولا... حتي استسلم فريد و انصرف.
 كان كل من بالمكتب قد انصرفوا منذ زمن و لم يبق إلا عمر و عامل عجوز طاعن في السن معتاد أن يكون آخر من يذهب ليقفل المكاتب بنفسه.
ناداه عمر و قد شاهد سلسلة مفاتيح تتدلي من جيبه فمني نفسه أن يكون بينها المفتاح الذي يبحث عنه، سأله عن المفتاح فرد بأنه ليس معه للأسف.
ارتسمت خيبة الأمل و الاحباط علي وجه عمر و قد شعر أن كل جلوسه كان بلا فائدة، لم يلبث أن وجد العامل العجوز يستدرك قائلا:
هو حضرتك تريد ما في هذا الدولاب ضروري الآن؟
قال له عمر بلهفة:
طبعا ... يا ريت
فهز العجوز رأسه مبتسما و قال:
أتعلم يا استاذ .. أنا أعمل في هذه الشركة من حوالي 35 سنة و أعرف كل خرم ابرة فيها و أعرف كل العاملين بها من أول عبد الرحمن بيه صاحبها حتي أصغر عامل ...
نظر إليه عمر متسائلا فأكمل:
يمكنني أن أفتح لك الدولاب حتي لو لم يكن معي مفتاحه ... أنا أدرىَ بهذه الدواليب و طرق فتحها
افتحه إذن ، ماذا تنتظر ؟
تردد العامل و قال بشك:
هذه أمانة يا أستاذ و ما يدريني لماذا تريد هذه الملفات الآن و قد انصرف كل الموظفين
كان عمر قد نفذ صبره من الحديث فقال للعامل:
يا حاج، أنا حفيد عبد الرحمن بيه و ها هي بطاقتي لتتأكد و أريد هذه الملفات الآن لأن فيها أمر مستعجل أريد أن أنهيه و .. نسيت أن آخذ المفتاح من صاحبه قبل أن يذهب
اقتنع الرجل بكلامه و بالفعل أعمل أدواته قليلا في الدولاب حتي فتحه، زفر عمر في ارتياح ثم نظر في ساعته فوجدها قاربت علي السابعة مساء فقام بتصوير كل ما وجده من ملفات و أقفل الدولاب مرة أخري كما كان بمساعدة العامل ثم انصرف عائدا إلي بيته.
طوال الطريق ظل مشغول الذهن مشوش التفكير، أتراه بالغ فيم فعل ..!
لم انتظر كل هذا الانتظار و لم أصر أن يعرف ما بداخل الدولاب.. كان عليه أن يراعي أنه لازال جديد بين زملائه و لعلهم يتحسسون من كونه حفيد صاحب الشركة و ربما هذا ما جعل فريد يرد هذا الرد القاسي.
زفر في حيرة، إنه شئ غريب أو .. شك طاف بنفسه و أشعره ان انفعال الرد كان مفتعل، لقد تعامل مع فريد من قبل و لم يعامله هكذا قبلا، ربما كان مخطئا ان فتح الدولاب عنوة و صور ما فيه بدون علم أحد، و لكنه فقط يبحث عن اطمئنان نفسه و راحة باله...
 لماذا يترك للشك سبيلا يتسلل به إلي نفسه، ليقطع ذلك باليقين و لينتهي من هذا الامر و إن اكتشف أن احساسه كان كاذبا سيخبر باسم و يعتذر له و ربما لفريد ايضا.
دخل المنزل فاستقبلته انجي باسمة، تناولت منه جاكته و تبعته إلي حجرة النوم و هي تقول:
لقد حدثتني نور اليوم و أخبرتني أن جدك عزمنا علي الغداء الجمعة القادمة
رد باقتضاب:
حسنا
لم تنتبه لجموده و أكملت مولية إياه ظهرها و هي تعلق الملابس في الدولاب:
هل سنذهب؟
بالطبع و لم لا
ظل السكوت مخيما فانتبهت لحاله، أنهت ما في يدها و جلست بجانبه علي طرف السرير قائلة:
ما بك يا حبيبي؟
لا شئ بالي مشغول فقط
و ما يشغل بالك؟
عمل متعلق بالشركة
نظرت إليه بحنان و قد شعرت به عدم رغبة في الكلام، فاحتضنت يده في كفها و قالت:
حسنا ... ألن تأكل؟
لا، لقد أكلت في الخارج
ثم نهض من مكانه، نظرت إليه متسائلة فقال:
اعذريني الليلة، لدي عمل أحضرته معي و سأدخل أنهيه في حجرة المكتب
أومأت برأسها متفهمة و هي تحمد الله أنها ليلة واحدة سينشغل فيها عنها بعدما كان في دبي لا تراه ليلا أو نهارا.
دخل عمر مكتبه و انهمك في البحث في الملفات التي أحضر صورها معه و قد زاده شكا أن وجد تواريخها حديثة و ليست ملفات قديمة إذن كما قال فريد.
مضي عليه وقت لا يدري طوله و حاجباه معقودان و هو يراجع المرة تلو المرة تلو المرة عسي أن يكون مخطئا. كل مرة ينتهي إلي نفس النتيجة.. نفس النتيجة بلا خلاف .. هذه الحسابات مغلوطة و كل ملف يحتوي الحساب الأصلي و حساب آخر بأرقام أقل ليست صحيحة. عقود بصفقات هائلة، تسجل في حسابات الشركة بأقل من قيمتها.
وصل إلي الملف الأخير و قد بلغ به الغضب مبلغه من فريد، و لهذا لم يكن يريد لي أن أطلع علي ما فيها .. يا له من خائن... فتح الملف فارتد للوراء علي كرسيه مرتاعا .. يا الهي .. ليس فريد ..
كان الملف يحتوي علي رقم حساب باسم و كل المبالغ المنقوصة محولة لحسابه الخاص..
يا الهي .. لا يمكن .. كيف ...
باسم يسرق جدي ..
جدي سيموت فيها لو عرف ..
 .. ماذا سأفعل أنا الآن ... ! كيف سأسكت علي هذه المصيبة .. بل كيف لا أسكت عنها...
لابد أن أخبر جدي و لكن كيف ... لن يحتمل أبدا .. لقد وثق في باسم سنين طويلة، كيف يخون باسم ثقته هكذا .. يا له من وضيع .
دخلت عليه انجي قاطعة أفكاره و اقتربت منه قائلة:
حبيبي لقد جاوزنا منتصف الليل، ألن تنام؟
انتبهت لوجهه الشاحب علي الضوء القريب منه فقالت بحذر:
ما بك يا عمر، مالك يا حبيبي؟
ظل صامتا لحظات و هو لا يدري ما يقول، فضمت كتفيه إليها قليلا و عاودت سؤاله بصوت أكثر حنوا...
زفر في حزن يعكس الهم الذي شاب نفسه، ثم بدا يحكي لها عله يجد لديها حلا.
 انتهي عمر من روايته بينما انجي تحدق فيه بلا كلام، و كأنها لا تصدق مثله ما حدث ثم قالت بتردد:
عمر ... أعتقد أنه لابد أن تخبر جدك
هذا هو التصرف الصحيح .. لا يمكن أن تتركه أعمي هكذا عن الحقيقة.. حتي لو كانت حقيقة مرة مرارة العلقم
 كان يعلم أنها علي صواب و لكن لم يدر بم يرد فقام من مكانه بتثاقل و تمتم بصوت منخفض أنه لن يذهب للشركة في الغد.

اتصل عمر بالشركة في اليوم التالي و تحجج بأنه مريض و أخذ اجازة لنهاية الاسبوع، لم يكن ليستطيع الذهاب أبدا.. يذهب لمن و بأي وجه يلقاهم، أيذهب لباسم الحرامي و يواجهه بسرقته و جرمه أم ليلقي فريد الأمين العفيف المتستر عليه .. كيف يلقاهم و يبتسم في وجوههم كأن شيئا لم يحدث و كأنه لم يعرف شيئا... لا، لم يكن ليستطيع أن يسكت و كان سيفضح كل شئ... أو ليس عليه أن يفضح بالفعل كل شئ !
أوليس عليه أن يخبر جده بهذه المصيبة الثقيلة و أي مصيبة أثقل من خيانة الأمانة و الثقة.. لقد استقر رأيه .. لابد أن يخبره و الدليل معه.. بقي فقط أن يعرف كيف و متي يستطيع أن يقول له ذلك...
كان يوم الجمعة يقترب سريعا، يوم سيجمعه بجده و باسم في مكان واحد، كانت انجي تشعر باضطرابه و لكنها لم تتكلم تاركة له مجال للتفكير في أمره حتي أتي صباح الجمعة فلم تستطع سكتا فقالت له بعدما رجع من الصلاة و هما يرتديان ملابسهما استعدادا للنزول:
عمر، ماذا ستفعل مع جدك اليوم؟
لا أدري يا انجي .. لا أدري 
تنهد في حيرة ثم قال:
سآخذ الملف معي و أتركه في السيارة و ان استطعت أن أقول له سأفعلها و إن لم يكن الوقت مواتيا سأؤجلها
مسحت علي ظهره بحنو و كأنها تمتص توتره و قلقه ثم قالت:
إن شاء الله خير يا حبيبي
كان عمر و انجي آخر الواصلين، فما إن دخلا حتي تعالت صيحات الجوع مطالبة بالطعام فتأثرا بالجو المرح الذي ساد المكان خاصة و أن باسم لم يكن موجودا.
سأل عنه ياسين و هم يتناولون الطعام فأخبره الجد أنه سيأتي بعد ساعتين لأن ورائه مشاوير مهمة علي حد قوله، امتعض عمر حينما ذكر اسم باسم و لكن أزاحه جانبا لكي لا يفسد عليه اللحظة.
بعدما انتهوا، أخذت نور و انجي تساعدان  صباح في توضيب السفرة و قدما الشاي للباقين ثم انتحيتا جانبا من الصالون تاركين إياهم في غرفة الجلوس الأخري.
ساد الصمت بينهما قليلا و نور لا تكاد تصدق في نفسها كيف مرت الأيام و دارت و تغيرت الأحوال خلال هذه السنة، أهذه عدوتها اللدود التي نغصت عليها أياما و ليالي كثيرة دون أن تعرف شيئا عن ذلك، أهذه التي يوما دخلت من هذا الباب مع أهلها فسلمت عليها و قبًلتها فكانت قبلتها مرا و علقم علي شفتيها... و كان ياسين وقتها هو العالم الوحيد بالأمر، تذكر كيف هربت منه و من تطلعه لها و خبرته بحزنها و كيف أخفت نفسها عنه .. ياه يا ياسين دائما أنت كنت و مازلت خير من يشعر بي...
قطعت انجي أفكارها قائلة باسمة:
أين ذهبتي؟
ردت نور ابتسامتها بابتسامة و قالت:
كنت أفكر في اليوم الذي أتيت فيه من سنة حين كنت في بداية خطبتك لعمر... اليوم صرت من أهل البيت
ردت انجي:
ياه، لقد مضي وقت طويل فعلا علي أول مرة أدخل فيها هذا البيت
سرحت قليلا ثم قالت:
لكن ، أتعلمين لقد تغيرت كثيرا من حينها
نظرت إليها نور متسائلة فقالت:
الزواج يغير كثيرا و غدا تعلمين بنفسك ...
لقد أصبحت انسانة اخري أطول بالا و أكثر احتمالا، حينما كنت في بيت أهلي كنت أكثر تسرعا و تهورا، كانت هناك خطوط حمراء لا يستطيع أي شخص أن يتجاوزها معي ..
ابتسمت ابتسامة واسعة ثم أكملت:
الآن بيني و بين عمر لم تعد هناك لا خطوط حمراء و لا صفراء و لا خطوط من الأساس، صرت أطول بالا و كأني أهدهد طفلي الصغير، صرت أقبل منه ما كان لا يمكن أن أقبل من غيره... صرت علي استعداد أن أضحي بكل شئ و أن أغير في نفسي كل طبع لأجل أن أريحه و أسعده...
ردت نور قائلة:
إننا نفعل أشياء عجيبة من أجل من نحب ... أشياء لم نكن نعتقد انها باستطاعتنا أو حتي داخلة في قدراتنا
فنجدنا نقسو علي أنفسنا و نحملها عن رضي و طيب خاطر ما لم تكن لتحتمل لولا أن من نسعي لرضاهم هم أغلي و أحب إلينا من كل شئ في الدنيا حتي أنفسنا
صحيح
و قبل أن تكمل كان عمر قد دخل عليهما و أشار لانجي أن تستعد للذهاب، فقالت نور:
لم ستذهبون هكذا سريعا !
سأوصل انجي للمنزل ثم أعود لأني أريد جدي في موضوع متعلق بالعمل
اتركها معي يا عمر و اجلس مع جدي كما أردت
كانت انجي فهمت ما يجول بخاطر عمر و أنه يريد ألا يكون في المنزل سواه و جده لكي يخبره بالأمر فردت هي:
لا بأس، نعوضها مرة ثانية إن شاء الله لأن ورائي اشياء كثيرة لابد أن أنجزها في البيت
فاستسلمت نور لمشيئتهما و ودعتهما حتي الباب.
مضت نحو ساعة ثم عاد عمر مرة أخري، فتحت له صباح فدخل حاملا بيده ملف و سألها عن جده فأخبرته أنه بالحجرة و ستذهب لتخبره بقدومه.
دخل الصالون و جلس منتظرا و قد بلغ توتر أعصابه الذروة، أخذ نفسا عميقا حتي يستطيع أن يسيطر علي أعصابه المنفلتة لكي لا يزيد الأمر سوءا.
رن جرس الباب مرة أخري، ثم سمع عمر صوت باسم.
ضم قبضته في غضب و لم يعرف كيف سيتصرف الآن و قد تعقد الموقف أكثر بقدوم باسم.
دخل عليه الصالون فسلم عمر بصوت مكتوم فاستغرب باسم ذلك منه، ثم انتبه للملف الموجود بيده و شعار الشركة الموجود علي طرفه. لم تمض لحظة إلا و كان باسم قد أدرك ما بيد عمر.
أخذته المفاجأة و انعقد لسانه، لم يكن عمر ينظر إليه و كأنه يشمئز من رؤيته ، أخذ يفكر سريعا ثم وجد نفسه يقول بغضب مكتوم في نفسه:
ما هذا الذي بيدك يا عمر؟
التفت إليه و قال ببرود:
و ما شأنك؟
شأني أن هذه ملفات الشركة، ماذا تفعل معك، و من أذن لك أن تأخذها .. أنا الوحيد المسموح له أن يأخذ الملفات خارج الشركة لكي أعرضها علي جدي
حاول عمر التحكم في أعصابه و لكن ارتفع صوته قليلا و هو يقول بغضب:
كف عن التمثيل يا باسم، كف عن التمثيل
لقد عرفت كل شئ
عرفت ماذا و عم تتحدث أنا لا أفهم شيئا، أجننت يا عمر
فقد عمر أعصابه تماما و هو يقول:
عرفت أنك سارق و خائن للأمانة، خنت ثقة جدك التي وضعها فيك طوال هذه السنين و أخذت مبالغ طائلة لم تكن من حقك أبدا
لقد رأيت الحسابات يا باسم و تأكدت بنفسي من كل شئ ... تأكدت أنك شخص سارق و ووضيع
هب باسم واقفا في غضب:
أجننت يا عمر أجننت .. أنا تقول لي ذلك
و ماذا تعرف أنت عن أي شئ ... ماذا تعرف عن سهر الليالي و التعب
أنا الذي صنعت اسم هذه الشركة و كبّرتها بعقلي و مجهودي ... هذا تعبي أنا .. تعبي .. هذا حقي
فتح عمر فمه ليرد عليه و لكن بهت حينما وجد جده واقفا وراء باسم بعينين محمرتين من الغضب، انتبه باسم لسكوته فالتفت وراءه... امتقع وجهه بشدة من الموقف و ران الصمت علي المكان و قد بدا أن الجد قد سمع كل ما دار بينهما.
ساد صمت رهيب ، ثم خطا الجد بضع خطوات تجاه عمر .. أخذ من يده الملف و خرج من الصالون قائلا بصوت عميق موليا اياهما ظهره:
اخرجا من بيتي ... أنتما الاثنان

مضي أسبوع علي هذا الموقف و الجد قد أغلق عليه بابه لا يري أحدا و لا يترك أحدا يدخل إليه، جاء عمر أكثر من مرة ليراه فرفض مقابلته. كانت الصدمة لا تحتمل بالنسبة له أن يخونه أحد أحفاده، هو الذي لم يبخل عليهم بأي شئ و لو طلبوا روحه لأعطاهم إياها عن طيب خاطر.. و ياليتها خيانة لا تغتفر فحسب و لكن شرخ عميق و صدع لن تصلحه الأيام. كل أيامه الطويلة المرهقة .. كل الكد و التعب الذي احتمله ليحافظ علي ترابط عائلته أصبح هباء منثورا و ذهب ادراج الريح .. لن تعود الامور أبدا كما كانت .. .
امتلأت عيناه بالدموع عندما تذكر ذلك الخائن الذي لم يكلف نفسه حتي عناء الاعتذار له و إنما لم شتاته و واجه الجميع ببجاحة لا معقولة و انصرف يبحث عن مستقبله بعيدا عن كبت جده لمواهبه ... أنا .. كبتي أنا له .. و أنا الذي أسلمته قيادة كل أعمالي و تركت له من الحرية ما شاء أن يفعل لكي لا يشعر ليتمه أنه اقل من أبناء عمومته..
ظل محدقا في الفراغ المبلل بدموعه لفترة لا يعلم طولها حتي شعر بطرقات علي الباب .. لم يرد .. فدخلت نور ببطء ..
دون أن تتكلم اقتربت منه .. قبّلته علي خده و انحنت بجانب ركبتيه .. تناولت يده المعروقة بين يديها ثم قالت بصوت خفيض:
-اعلم أن الموقف صعب عليك يا جدي .. اصعب حتي مما استطيع أن أتخيل ..
ابتلعت ريقها ثم أكملت:
-و أعلم ايضا أن ذهاب باسم أثر بك كثيرا .. و لكن  ..
ابتسمت ابتسامة باهتة و حاولت أن تقلد طريقته قائلة:
-ألم تقل لي يوما .. مادمت تحيين في هذه الدنيا يا بنتي ، ستتواتر عليك لحظات اليأس و الأمل ، الحزن و الفرح ... لحظات تحسبين فيها أنك أشقي من علي الأرض ، و أخري تُشعركِ أن الحياة ليس فيها سوي النعيم و الأمل و السعادة .. فلا هذه باقية و لا تلك دائمة .. و إنك إن تركت الضعف يستولي عليك في كل لحظة حزن و استسلمت للألم ستعيشين حياة التعساء ... فالأصل في الحياة التعب و إنما الانسان يستعين علي متاعبها بما يختلسه من لحظات السعادة ...
صمتت تماما و هي ترقب دموعه التي انسالت رغما عنه تأثرا فأسرعت تقول بحزن حقيقي:
-جدي، ارجوك ... أنا أعلم أنك اقوي من ذلك  ... ليس باسم أول من يخطئ .. أعلم أن الخيانة صعبة خاصة من أقرب الناس إليك و لكن انا واثقة أن الدائرة ستدور و سيعلم خطأه .. حتي لو لم يكن ذلك الآن أو اليوم أو حتي بعد سنوات و لكن في النهاية سيفهم يوما ما مقدار ما ارتكبه و سيعود ..

مسح دمعته بكف يده العجوز و قد بدأت كلماتها تشفي نفسه قليلا و لا حظت هي بوادر الأمل ..  لم ترد أن تثقل عليه .. فقبًلت يده و قامت ... لكن قبل أن تخرج التفتت إليه قائلة بتردد:
-جدي ... عمر اتصل للمرة العاشرة اليوم .. هل يستطيع أن يأتي ..؟
سكت قليلا ثم قال بصوت هادئ و قد تذكر كلمات حفيدته الجميلة مقررا أنه لابد و أن يتجاوز هذه المحنة :
-دعيه يأتي يا ابنتي
ابتسمت له ممتنة ثم خرجت مغلقة الباب وراءها
كان ياسين ينتظرها في الشرفة و هو الذي حثها أن تدخل لجده تحدثه، فما إن رأها حتي قام واقفا و قال:
-ها .. ماذا فعلتي ؟
-يعني .. هناك أمل .. علي الاقل سمح لعمر أن يأتي
ابتسم متمتا .. الحمد لله
ظلا صامتين لحظات و هو يرقب عيناها الحزينتين التائهتين في الأفق .. شعر بقلبها المنفطر ، فاقترب منها .. أحاطها بذراعيه و احتضنها في حنو .. فانهارت مشاعرها علي صدره قائلة
أنا لم أر جدي بهذا الحزن قط يا ياسين .. قلبي ينفطر عليه كل يوم
لا تقلقي ، جدي قوي و كل شئ سيمر بخير إن شاء الله
لا أدري يا ياسين .. لا أدري
و باسم  ! لا زالت لا أصدق كيف خان ثقة جدي هكذا و هو الذي فعل كل شئ من أجلنا
تنهد ثم رد عليها:
باسم لم يهمه ما فعل جدي، هو لم ير إلا نفسه و لم يحب سواها... و من أجل نفسه و لنفسه أباح كل شئ
تذكرت نور ما قالته لانجي يومها ...
"إننا نفعل أشياء غريبة لأجل من و ما نحب .. و باسم لم يحب إلا نفسه"
زفرت في ضيق، فزاد من ضمها إليه ثم همس في أذنها بحنو:
لا تقلقي، كل شئ سيمر و جدو سيعود أقوي مما كان
أتعتقد ذلك!
نطقتها بصوت ضعيف كطفلة تبحث عن الاطمئنان بأن كل شئ سيصير بخير...
قبلها بحنو خلف عنقها و همس في أذنها:
-أتثقين بي ؟
استسلمت لحنو شفتيه و همست:
-طبعا
ابتسم ابتسامة جميلة و رد بهدوء:
-كل شئ سيكون بخير و الأمور ستعود كما كانت  
ساد الصمت بينهما قليلا ... صمت مفعم بالحزن و الأمل و المعاناة و الصبر ... استعادت الكلمات التي قالتها لجدها .. أن هكذا هي الحياة .. الأصل فيها التعب و إنما الانسان يستعين علي متاعبها بما يختلسه من لحظات السعادة ...
و كأنما قرأ ياسين ما جال بخاطرها فهمس في أذنها مجددا .. كل شئ سيكون بخير يوما ما .