الفصل الثالث عشر: من أجلك وحدك (2)







وصلت دينا النادي في الخامسة و النصف ، رأته جالس علي طاولة في جانب منزوي ، ابتسمت ابتسامة واسعة و اتجهت نحوه . قام من مكانه حين رآها و سلم عليها بحرارة و سعادة لرؤيتها فرحت بها أيما فرحة، جلسا و بعد تبادل السلام و الأخبار المعتادة ، قالت بابتسامة حلوة :
- أوحشتني جدا يا ياسين ، هكذا تغيب عنا شهرا و لا تسأل !
رد بابتسامة معتذرة قائلا :
- حقك والله ، اعذريني
ثم أكمل بابتسامة أوسع :
- و ها أنا يا ستي سأعوض لك هذه الغيبة بأخبار سعيدة
بلغ فضولها أقصاه و قالت :
- ها .. هات ما عندك
ضحك مرتبكا و قال :
- والله لا أدري كيف أخبرك و أنا نفسي لازلت غير مصدق
نظرت إليه متسائلة و قد تعكرت ابتسامتها قليلا بقلق شاب نفسها من خاطر ألم بها ، ظل صامتا لحظات و كأنه يستجمع نفسه فزاد من توترها ثم قال بنبرة سعيدة غير مصدقة :
- أنا خطبت نور و الجمعة الجاية سنلبس الدبل

تجمدت ملامحها غير مصدقة ... ظلت تنظر إليه و كأنه يمزح ، أو كأنها تترجاه أن تكون هذه مزحة سيئة ستسامحه عليها .. ابتسامة ملتصقة علي شفتيها تريد أن تتقلص و تختفي ... لمعة دمع في عينيها تجاهد ألا تسقط ... أنت لم تقل ذلك .. أرجوك ، أنت لم تقل ذلك ... لاحظ المفاجأة علي وجهها و أدهشته لمعة الحزن التي لم تكن لتخفي عليه ، فقال في تردد... :
- دينا .. !
أفاقت علي اسمها من بين شفتيه ، أدركت أنها في هذه اللحظة لابد و أن تقول شيئا .. حاولت بكل طاقتها أن ترسم فرحة علي وجهها و قالت :
- ألف مبروووك يا ياسين ، هذا خبر رائع
رائع لدرجة أنه حطم قلبي .. نسف كل حياتي نسفا .. رائع لدرجة أني أشعر بهبوط مدوي و شرخ عميق يسري في جسدي .. رائع لدرجة أني أتمني لو لم أولد لأشهد هذه اللحظة .. رائع يا ياسين... رائع ..
أنقذهما مجئ الجرسون بما طلباه منذ قليل و استغلت هي الفرصة و استئذنت في الذهاب للحمام ... مشت مبتعدة بخطوات مسرعة ، ليتها لم تره اليوم ، ليتها لم تعلم .. ليتها ظلت تحبه في صمت دون أن تعرف شيئا عما في قلبه .. كان غموض الأمل لكفيل بأن يحييها .. أمل في لحظة قد تجمعهما سويا كما تمنت .. انقباض ، انقباض مؤلم في صدرها كأن سكينا غرزت ، لأول مرة تشعر بصدي ألمها النفسي متجلي بهذا الوضوح و كأنه مد يده و طعنها بالفعل ..
دخلت من باب الحمام و أقفلت وراءها ، تركت دموعها تنساب ... لم يا ياسين .. لم ؟ .. لم يا حبيبي تؤذيني كل هذا الأذي و ما تمنيت لك يوما إلا كل سعادة ... لم يا نور عيني .. يا دفء حياتي ...
احمرار دموي في عينيها من فرط انحباس الدموع حينما كانت معه ... ماذا أفعل يا ربي ، ماذا أفعل ! إنه خطئي .. خطئي .. كنت أعلم ، كنت أعلم من لحظة رأيت تلك الصورة و لكني رفضت التصديق و أسميتها وساوس و نأيت عنها بنفسي ... تشبثت بأمل كنت أشعر بعدم وجوده .. ليتني .. ليتني ماذا !! ليتني ما أحببته ؟؟ أو كان حبه اختيارا حتي ألوم نفسي علي اتباعه ... !
انتبهت لطرقات علي الباب ... انتبهت لموقفها .. كيف سيفسر موقفها الغريب هذا... لابد أن تخبره شيئا .. لابد أن تستجمع شتات نفسها .. غسلت وجهها بدفقات مياه بسيطة ، ثم أصلحت ما أفسدته المياه من زينتها ، ستخرج الآن ، ستجلس معه نصف ساعة و ستدّعي الفرحة بأقصي ما تسمح به نفسها .. ستحاول أن تخبره بأي شئ يبرر موقفها ...
خرجت و كان هو جالس مقطب الجبين ، لا يدري ما ألم بها ... خواطر تطوف بباله يخشاها .. وجدها قادمة فابتسم ابتسامة مرتجفة و حين جلست قال بلهجة حنونة :
- ما بك يا دينا ؟
 ضحكت ضحكة لا معني لها و قالت :
- لا شئ يا ياسين .. ألف ألف مبروك .. فعلا هذا الخبر من أسعد الأخبار التي سمعتها في حياتي .. بارك لنور كثيرا
ظل ينظر إليها ، ثم كرر سؤاله :
- ما بك يا دينا ؟
تبللت عيناها بالدموع مجددا ، تلك الدفقة الحنونة في سؤاله أفقدتها كل قدرة علي الاختباء بنفسها عنه ، لا مفر من الكذب .. ظلت صامتة قليلا ثم قالت :
- لا شئ يا ياسين ، صدقني أنا سعيدة جدا من أجلك ... كل ما في الأمر فقط أني تذكرت أمر أحزنني
سأل بحذر :
- ما هو ؟
بلعت ريقها ثم قالت :
- أمر .. لم أكن أخبرتك به من قبل ، و كنت أنوي أن أحكيه لك اليوم ...
ظل صامتا ... فأكملت :
- أنا ... كنت أحب أحد زملائي بالكلية و لكن .. حدثت أمور و مشاكل خارج إرادتنا .. و ... افترقنا من أيام بعدما اضطر هو للسفر للخارج و لا يعلم متي سيعود ...
أخذت نفسا عميقا محاولة التماسك و قد صارت علي شفا الانهيار ، ثم أكملت :
- كان كل شئ بالنسبة لي .. كل شئ .. كل شئ أحببته في الدنيا كان هو .. لم أتمني شيئا من الله مثلما تمنيته .. و لكن .. كل شئ نصيب ..
و .. حين .. أخبرتني عن خطبتك .. تذكرت ما كان بيننا ، فلم أستطع أن أتماسك
رسمت ابتسامة ضعيفة علي شفتيها و قالت :
- سامحني.. أفسدت سعادتك ... لكن فعلا ، أنا سعدت جدا من أجلك
... أنا أصلا كنت أشعر أنك تكن لنور مشاعر ما و لكني لم أرد أن أفتح معك الموضوع إلا حينما تفتحه أنت أولا.. مبروك يا أحلي أخ في الدنيا ..
ابتسامة علي شفتيها تحاول أن تثبت بها كذب دموعها ... نظرة عينيه تتأملها و كأنه يحاول أن يستشف مدي صدقها ، ثم قال :
- و لماذا لم تخبريني من قبل ؟
- لم أجد فرصة و أنت كنت مشغول دائما ... و ها أنا ذا قد خبرتك
ظل عابس في سكون ، لم ترد له أن يفكر .. أرادت فقط لهذه اللحظة أن تمضي ... فقالت في رجاء :
- ياسين .. أرجوك لا تجعلني أشعر أني أفسدت فرحتك ... هيا ، أخبرني معلومات أكثر عن الموضوع .. دعنا من هذه الكآبة
ظل ينظر إليها قليلا ، ابتسمت ابتسامة واسعة بقدر ما استطاعت ... فبدأ يتكلم قليلا و هي تسأله أكثر .... لم تدر كيف وجدت في نفسها هذه القدرة .. و لكن ربما من شدة الألم بنفسها لم تعد تشعر بشئ ...
لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها ...
بعد قليل ، رن تليفونها .. كانت أمها تسألها عن سر تأخرها ، فاتخذت ذلك عذرا للذهاب ... حاولت بقدر المستطاع أن تؤكد له القصة الوهمية التي اختلقتها .. لا تريد له أن يفكر في أية احتمالات أخري .. برغم كل شئ ... لا يهمها في الدنيا أمر قدر سعادته و لا يفزعها أكثر من ألمه .. و هو سيتألم حتي النخاع لو علم الحقيقة و لذلك لا تريد له أن يعلم ... يكفيها ألمها .. لن تستطيع أن تتحمل عذابها و عذابه معا ...
أخذت تبتدع بعض التفاصيل في قصتها حتي صار أقرب إلي تصديقها ، و تركته بعدما شعرت أنه صار أحسن و استرجع بعضا من ابتسامته ...
ركبت سيارتها و انطلقت للمنزل ، و جمود غريب سيطر عليها ... و كأنها ليست هي .. كأن روحها ماتت .. ماتت .. لم يعد فيها روح .. مجرد جسد يتحرك ...
وصلت بعد وقت لا تدري طوله من قصره .. من دون كلمة فتحت بمفتاحها و انسلت لغرفتها في صمت و كأنما فقدت القدرة علي الكلام ... أقفلت الباب وراءها .. و دون أن تغير ملابسها ، اندست تحت أغطية الفراش و اختبأت حتي رأسها ...
ظلت تحدق في الظلام الضيق من بين دموعها التي أغرقت الوسادة ... لا شئ يدور برأسها ..... لا شئ سوي الألم المفزع الجائل في كيانها ... ظلت علي حالتها هذه حتي أغفت من شدة التعب و كثرة البكاء .
ساعات مرت عليها و هي نائمة لا تشعر بشئ ، حتي أيقظها طرق أمها علي باب حجرتها و هي تخبرها أن الوقت تأخر و عليها أن تكف عن النوم ...
سهمت للحظات .. ثم فجأة ارتد إليها وعيها و تذكرت ما حدث.. كأنما أخذت لكمة بأنفها .. دار رأسها من صداع فظيع شعرت معه بخلايا مخها تتآكل .. و بقايا دموع جافة علي وجهها ...
سامحك الله يا أمي .. لم أيقظتني .. ليتك تركتيني و ما صحوت أبداَ .. يا ليتها كانت آخر غفوات حياتي ..
قلبها يعتصره اليأس .. و أي أمل بقي بعدما سمعته منه اليوم .. أي شئ يستحق الحياة .. و هو الحياة .. كيف أعيش و هي سـتأخذه مني .. للأبد .. هي ستحتضنه كل صباح .. ستهمس له بكلمات حبي .. سيتأمل عينيها و يلتقم حنانها .. هي ..
أجهشت بالبكاء مجددا .. دموعها لا تجف .. يا ربي ماذا أفعل ..
شعرت بخطوات أمها تقترب من الحجرة .. و صوتها يعلو ... خيل إليها انها قادمة لتوقظها مرة أخري ، فمسحت دموعها بسرعة و لكن تبين أن أمها كانت تتحدث في التليفون قائلة ...
"ألف ألف مبروك.. طبعا هنيجي الجمعة الجاية إن شاء الله "
جفلت في فزع .. لا ، لن أذهب .. لن أحتمل احاطة يده ليدها .. أو أصابعه تحنو علي راحتها .. و دبلته تستقر في اصبعها .. لا .. لا .. لا ..
يكفيني ما مررت به اليوم .. يكفيني .. أنا لازلت لا أدري كيف يمكنني أن أري ياسين مجددا .. خفضت رأسها إلي الأرض في وهن ..
و كيف يمكنني ألا أراه مجددا ...
ظلت مطرقة في سكون .. ثم قامت من سريرها ببطء .. و هي تدلك صدرها و كأنها تحاول أن تتخلص من الألم القاتل الساري فيه... خرجت إلي شرفة حجرتها عل الهواء يخفف عنها بعض من ضيقها ...
لن تستقيم الحياة هكذا .. لن تستطيع أن تعيش دون رؤيته .. و لن تستطيع أن تعيش برؤيته مع نور.. انقبض قلبها في قسوة حين لفظت اسمها ..
 لن تستطيع أن تمنع نفسها عنه و هي تعرف ذلك .. و لن تستطيع أن تخبئ عنه حزنها أكثر من ذلك .. هو يشك بالفعل فيها بعد رد فعلها اليوم و لن تسمح لهذا الشك أن يتحول لحقيقة .. هو لن يحتمل ذلك .. و هي لن تحتمل عليه ذلك ..
"سأسافر"
هذا هو الحل الوحيد ... لن أذهب يوم الجمعة و سأخبره ان لدي مقابلة مهمة يومها من أجل السفر .. ثم أسافر بعدها في سكون .. ربما أودعه مرة و انتهي الامر علي ذلك ..
لابد أن اكون قوية .. لا ينبغي أن أستسلم لضعفي الآن ..
رددتها في قوة لا تعكس ضعف الدموع في عينيها.. قالتها و كأنما استهلكت بها كل ما بنفسها من قوة .. ثم تهالكت علي الكرسي تاركة العنان لدموعها.
كان باق يومين علي الجمعة.. كلمها ياسين أكثر من مرة و ألح عليها أن تأتي فاعتذرت منه بما كانت أعدته من عذر..
مر اليومان سريعا و جاء يوم الجمعة، استيقظت علي صوت الخطبة من مسجد قريب منهم .. فتحت عينيها و ظلت محدقة في السقف بعينين يشع منهما الحزن المكلل بهالات سوداء أحاطت بهما من كثرة البكاء.
كانت أخبرت أمها أيضا بأمر المقابلة المزعومة حتي  لا تضطرها للذهاب، نظرت في ساعتها التي جاوزت الثانية عشرة بقليل و فكرت أنها لابد و أن تنزل الآن حتي لا يشكوا في شئ.
 قامت من سريرها بتثاقل و كأنما تجر جثة لا حياة فيها و كأن جسدها يتشبث بالسرير راجيا الاختباء تحت الاغطية ، و كأن كل ما فيها يريد الهروب من هذا اليوم.
لا مفر من الهروب، إنه قضاء الله و علي أن أتقبله...
توضأت و صلت و ارتدت ملابسها ثم خرجت من حجرتها، وجدت أمها جالسة في الصالة فبادرتها قائلة:
-ألم يكن من الممكن يا بنتي تأجيل مقابلة اليوم هذه؟
- لا يا أمي، اليوم سأعرف ميعاد السفر؟
ردت أمها باستغراب:
-أنت قررت السفر؟؟ أنت اخبرتني أنك لا تزالين تفكرين؟
- لا، لقد قررت ... انها فرصة كبيرة و لا يجب أن أضيعها و لن تأتيني مرة أخري ..
 و طالما أنت و أبي لا مشكلة لديكما، فما المانع .. ! سأسافر إن شاء الله
نظرت إليها أمها بتعجب و كادت تسألها سؤال آخر، فقالت دينا قاطعة عليها طريق ذلك:
-أنتم ... متي ستذهبون ؟
نجحت محاولتها في تغيير الموضوع و قالت أمها:
-بعد العصر إن شاء الله
- حسنا، باركِ ل ياسين و نور كثيرا و اعتذري لي منهما مجددا ... أنا ذاهبة .. سلام
ثم تناولت حقيبتها و نزلت.
كانت لا تعلم إلي أين تذهب، و ماذا تفعل .. ظلت تسير طويلا و كأن كل همها أن تبتعد قدر الامكان عن بيتهم و عن كل ما تعرفه في شارعهم و يذكرها به .. كانت تعلم فشل محاولاتها العقيمة .. إن رائحة ذكرياته لا تكمن في بيتهم و شارعهم، إنها عالقة بها و بكل ما فيها.
لا يجب أن تظل وحدها اليوم، سيكون يوما شاقا ثقيلا عليها، وحدتها ستزيد من اضطرابها و توقد ألمها بما لا تحتمله. أخرجت تليفونها من حقيبتها و كادت تطلب إحدي صديقاتها و لكن قبل أن تفعل وجدت الهاتف يرن من رقم غريب، ردت فكان أحد المسئولين عن أمر البعثة يخبرها أن الميعاد تحدد و أنها إذا كانت قد قررت السفر فعليها أن تحضر جواز سفرها و بعض أوراق أخري غدا لأن السفر أول الشهر القادم.
أنهت المكالمة و ابتسمت ابتسامة باهتة، لعلها اشارة من الله أنها اتخذت القرار الصحيح .. لابد أن تسافر فعلا، يبدو أنه قد كتب لها فراق ياسين و لا مفر من ذلك.
كلاكس سيارة نبهها لوقوفها في منتصف الطريق ساهمة، فأسرعت الخطو و كلمت صديقتها ثم استقلت اول تاكسي صادفها و ذهبت لها.
برغم كل محاولاتها التشاغل عن مشاعرها المتقدة نار بين جنباتها و برغم اصرارها علي الهروب من مشاعر اليأس التي استولت عليها، مر اليوم طويل، طويل جدا.. كأن ثوانيه استحالت ساعات مملة سخيفة لا تمضي.
و بحلول العشاء وصلت منزلها، دخلت بمفتاحها ظانة أنهم لم يصلوا بعد و لكنها وجدت أمها و أباها قد جاءوا.
استغربت لمجيئهم المبكر، فذهبت لأمها التي كانت تعد كوبا من الشاي في المطبخ... سلمت عليها ثم قالت:
-حسبتكم ستتأخروا في الخارج
- لا، كلها كانت ساعتين .. لبسوا الدبل ثم خرج ياسين و نور سويا ليقضوا أمسيتهم في الخارج
انقبض قلبها من الكلمات التي سممت روحها، سكتت فأكملت أمها:
-لكن لا أدري لم الاستعجال ! لقد حددوا ميعاد كتب الكتاب بداية الشهر القادم
لابد أن تكلمي ياسين يا بنتي و تباركي له
غصة تخنق الكلمات في حلقها و تكاد تمنع عنها الهواء، ابتلعت ريقها بصعوبة و قالت:
-لقد تحدد ميعاد سفري ... بداية الشهر القادم
التفتت لها أمها:
-بهذه السرعة !! لا يمكن
- لم أعرف إلا اليوم
رنت أمها إليها في شجن:
-حبيبتي البيت سيكون ظلمة دونك
قبلت أمها و احتضنتها و شعرت بحنانها يلطف الضيق المطبق عليها، و كأنما ذكرها أنه لازال هناك من يحبها و يهتم بأمرها ثم قالت بابتسامة دافئة:
- لن اغيب عنك كثيرا إن شاء الله و أعود باشمهندسة أد الدنيا
ثم تركتها و ذهبت إلي حجرتها لتنام محاولة أن تبعد عن خيالها طيف ياسين المحتضن كف نور برقة في مكان ما الآن.

مضت الأيام بدينا بأسرع مما حسبت و قد انشغلت أو تشاغلت متعمدة في الاستعداد لسفرها عن التفكير في اليوم الموعود و ما إذا كانت ستذهب أم تتحجج بسفرها و لكن المشكلة كانت أنها ستسافر في الليل بينما كتب الكتاب في عصر نفس اليوم.
كلمها ياسين مرارا و ألح عليها كثيرا و شعرت هي في اصراره قدر من الرغبة في التيقن مما يجول بخاطره خاصة أنه لم يرها من يوم النادي الذي أخبرها فيه بأمر نور و لذلك عزمت علي الذهاب.
نعم ياسين ليس لها و في هذا اليوم ستشهد ذبح أملها بعينيها و لكنه أهم يوم في حياته و إن لم تكن هي الجالسة بجانبه و الناطق صوته باسمها ...
لابد ان تكون بجانبه من أجل أن تكتمل فرحته .. لابد أن تذهب من أجل ألا يشعر بشئ و لكي لا تترك في نفسه أثر لجرحه القاتل فيها .. فهو و إن قتلها لم يقصد القتل و هي و إن ذُبحت .. علي استعداد أن تفدي بروحها اليد التي ذبحتها.

مرت الأيام و حل اليوم الموعود، استيقظت دينا قرابة الثانية ظهرا و علي وجهها آثار سهر طويل حرمها النوم.... طوال الليل لا تكف عن التفكير في الغد، الغد الذي لو كانت أحلامها صدقت و نالت ما تمنت لكانت الآن عروسا تنام قريرة العين.. لا.. لم تكن لتنام .. كانت فرحتها ستجعلها تستيقظ حتي الصباح منتظرة بفارغ الصبر أن ينطق ياسين باسمها معلنا قبوله زواجها ...
دموع جافة علي وجهها و جفنان منتفخان يعكسان حالة قلبها المحطم قطعا متناثرة ... يا ليتها ما أحبت و لا عشقت .. يا ليتها ما تاقت له نفسها بكل ما فيها ...
 تلألأت عيناها بالدموع و كأنها تراه رأي العين و تحدثه .. ألم يكن من الممكن أن أحبك أقل من ذلك لكي لا أكتوي هكذا .. أكان لابد أن تكون حبيبا غاليا متوطنا في نفسي متغلغل في كياني هكذا ليهز اقتلاعك نفسي و يزلزل جدراني ..
 أكان لابد أن تأخذ روحي معك .. ياسين ... ألم يكن يكفيك قلبي حتي استوليت علي روحي و حبستها عندك فأصبحت جثة هامدة بفراقك .. يا لمر الفراق .. يا لمر الفراق ..
تلاشي طيفه عن ناظرها بطرقات أمها علي الباب مخبرة إياها أن أمامها ساعة لتستعد لأن الوقت أزف ...
ارتعدت و ارتعبت .. أو حان الوقت ! أأراك مرة و لا تالي لها !
 و كيف أعيش دون ملامحك الحبيبة .. طوال الأيام الماضية هربت و هربت و هربت .. لم أفكر .. لم أترك لنفسي مجالا للشعور أو الاحساس .. عشت قدر استطاعتي مغيبة عن الواقع المر .. و أين المفر .. الآن أذهب لأراك زوجا لغيري .. الآن تحملني قدمي إليك أقدم نفسي ذبيحة في محراب حبك .. ليتني كنت أحبك و لو أقل قليلا .. و لو فقط قليلا ..
انهمرت دموع أخري اتخذت مجراها محل تلك التي جفت .. مسحتها بظهر يدها .. و قامت من سريرها كالذاهب إلي الموت ..
خرجت من حجرتها بخطوات متثاقلة .. اتجهت للحمام .. اغتسلت و توضأت .. ثم أعدت كوبا من الشاي .. و هي تطيل النظر في كل شئ حولها .. في بيتها الحبيب الذي ستغيب عنه طويلا ..
ابتسمت ابتسامة باهتة .. أرأيت يا ياسين .. لكي أنسي حبك لابد أن أنسي حياتي كلها و اتركها .. لابد أن أترك نفسي ورائي و اذهب أبحث عن نفس جديدة خالية من احتلالك ..
دخلت حجرتها .. نظرت إلي حقيبة سفرها المفتوحة فوق الطاولة .. تأكدت من أن كل شئ موجود بها .. ثم أغلقتها .. أخرجت ما ستلبس من الدولاب و فتحت الراديو بجانبها فانبعثت منه نغمات تعرفها .. أخفت وجهها بين كفيها .. الفراق يطاردها .. ثم بدأت فيروز تشدو علي وقع آلامها ...
" بالأمس انتهينا فلا كنا و لا كانا
يا صاحب الوعد .. خل الوعد نسيانا
طاف النعاس علي ماضيك
و ارتحلت حدائق العمر بكيا
 فاهدأ الآن "
عادت الدموع تبلل وجنتيها حرقة و صوت فيروز الملئ بالشجن يؤنس حزنها ..
" كان الوداع ابتسامات مبللة بالدمع حينا
و بالتذكار أحيانا
حتي الهدايا و كانت كل ثروتنا
ليل الوداع نسيناها هدايانا "
حتي الهدايا يا فيروز .. حتي الهدايا أنا لم أنسها .. لم أستطع أن أبعدها عن حقيبتي و ذاكرتي .. إنها كل ما بقي لي منه .. كل ما أملكه منه .. فبعد ساعة لن يبقي لي فيه ما أملك بعدما سيصبح لها وحدها ...
كانت انتهت من ارتداء ملابسها .. نظرت إلي حجرتها للمرة الأخيرة و قبلت أركانها بعينيها .. ثم تناولت حقيبتها و أغلقت الباب وراءها تاركة قلبها بالداخل .
لم تمض نصف ساعة و كانت قد وصلت القاعة، دخلت بخطوات مرتجفة... و بمجرد أن خطت أولي خطواتها داخلها حتي كان ما تخيلت تماما ... ياااه .. كم كان صادقا خيالي ..
الآن أراك يا ياسين تأنقت في بدلة سوداء ازدانت بك .. وسيما طويلا كأجمل ما تكون... أري عيناك تلمعان بفرحة لا توصف.. و يداك تطوف بهما تلك الرعشة الخفيفة حين تتوتر.. وابتسامة واسعة سعيدة تزغرد علي شفتيك .. كل شئ كما تخيلته تماما إلا شئ واحد .. شئ بسيط جدا ..
 أنا أقف هنا بعيدا و ليس هناك بجانبك..
لست أنا تلك الجميلة السعيدة بك التي لا تستطيع انتظار أن تكون لك للأبد ..
تماسكت بصعوبة.. لم تستطع أن تتجه نحوه.. كان محاطا بأصدقائه علي كل حال فلم يلحظها.. سارت خطوات لتجلس فاصطدمت بأحدهم فالتفت لها ثم قال في دهشة فرحة:
- دينااا .. يااااه لم أرك من زمن
  كان عمر ابن خال ياسين .. ابتسمت بكل ما في نفسها من تماسك و صلابة و حاولت أن تصطنع الفرحة و هي تقول:
- يااه عمر .. أنا كنت أحسبك في الخارج .. اعتقدت أن ياسين قال لي ذلك
ابتسم عمر راداَ:
- كنت في دبي فعلا، لكن عدت من حوالي شهر و سأبقي في القاهرة الآن بعدما صرت أعمل مع جدي
- ربنا يوفقك إن شاء الله .. و كيف حال انجي؟
- جالسة هناك وحدها، تعالي أعرفك عليها
برغم رغبتها الشديدة في الانطواء علي نفسها إلا أنه ربما كان تدبير الله أن يخفف عنها غلواء الموقف بألا تكون وحدها، بالفعل شغلتها انجي بالحديث عن النظر لياسين بعدما جلست في نهاية القاعة حتي لا يلحظها.
دقائق و هدأ الناس و بدأ المأذون خطبته و هي تحاول أن تصم اذنيها و تغمض عينيها عما يحدث حولها و لكن هيهات ...
انتهت الخطبة و بدأت مراسم الزواج .. احتقنت عيناها بالدموع و هو يردد وراء المأذون .. داعية الله أن تتماسك حتي آخر لحظة ..
دقيقة و كان انتهي الأمر.. ابتسمت ساخرة لتخفي رجفتها .. تماما كشكة الدبوس ..
زغاريد انطلقت تشق الهواء و سعادة ارتسمت علي الوجوه و فجأة دون ان تدري وجدت انجي جذبتها من يدها و قاما ليباركا للعروسين .. ساقاها لا يقويان علي حملها .. كانت تتحرك بالدفع من بقية الناس و الزحام حتي وصلت لياسين ... لفرحته و انشغاله باحتضان من يباركون له من أقاربه و أصدقائه.. مدت يدها لتسلم عليه و تبارك له ..
فاحتضنها ..
رائحة عطره و دفء ضمته التي لم يقصدها .. انهارت آخر دفاعاتها تماما ...
ابتعد عنها بسرعة و هو يعتذر مبتسما في خجل..
- دينا أنا آسف لم أقصد ..
يا ليتك قصدت ..
ردت ابتسامته بابتسامة و قالت:
- و لا يهمك يا ياسين .. ألف مبروك
- الله يبارك فيكِ .. انا فعلا سعيد انك قدرتي تيجي
ابتسمت و هي تقول كأنها ترثي نفسها:
- لم اكن لأستطيع ان أرفض لك طلبا
لكن اعذرني .. يجب أن أذهب الآن.. ميعاد الطائرة ..
- أعلم أعلم... إن شاء الله ترجعي أحسن مهندسة في الدنيا
- إن شاء الله .. مع السلامة
أشار لها بيده مودعا بعدما انحشر في زحمة مهنئيه .
في هدوء خرجت من القاعة المزدحمة... بخطوات ضعيفة و كأنها تضم إليها نفسها ..  كأن القدر لم يرد لها ان تذهب بوداع جاف .. فأعطاها خير ما تمنت بعدما لم يعد لها الحق في التمني ...
مشت ببطء و كأنها تخاف ان يتسرب منها دفئه و ملمسه .. أنفاسه و رائحته ... كأنها تريد أن تحتفظ ببقاياه حتي اللحظة الاخيرة ..
ركبت سيارتها و انطلقت تاركة حياتها و حبها و قلبها خلفها ... و صوت فيروز الشجي يتردد في أذنها ...
" كان الوداع ابتسامات مبللة بالدمع حينا
و بالتذكار أحيانا "





الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي