الفصل الخامس: سأنساك (2)






بعد نحو ساعة دق جرس الباب ... وصل عمر و أهله و معهم انجي و أهلها ، كانت نور لا تزال واقفة أمام المرآة و قد تألقت في ثوب فيروزي اللون أبرز جمال عينيها مسدلة شعرها خلف ظهرها وقد تهدلت منه خصلة علي جانب وجهها أحاطت باستدارة خديها في رقة . سمعت أصواتهم في الخارج، شعرت بقلبها يهوي إلي قدميها و سرت رعشة في جسدها .. أخذت نفس عميق لتستعين به علي اللحظات العصيبة القادمة و حدثت نفسها قائلة :
كوني قوية ، مرحة و متألقة ... لا تدعي أحدا يشعر أن بك شيئا
خرجت من الحجرة بخطوات ثابتة و مشاعر مرتجفة ، افتر ثغرها عن ابتسامة واسعة حاولت أن تداري بها رعشة شفتيها ... دخلت الصالون و سلمت علي الحاضرين ، قبلت إنجي و احتضنتها و باركت لها  ثم جلست و هي تشعر بطعم المر و العلقم علي شفتيها .. يد تعتصر قلبها في قسوة و سيل جارف من الدموع يحاول أن يحطم سدود مقاومتها ليخفف من وطأة الأنين الجريح الذي يدوي في صدرها ... .
أخذت تتشاغل بالحديث مع النساء عل صوتهن يطغي علي صوت .... عمر ... الحبيب الذي لم يعد لها ..  عله يطغي علي نداءات قلبها المتوسل بالرحمة من العذاب و هي تخنق خفقاته التي تنطق باسمه في وله ... عله يطغي علي الألم الذي يزلزل أركانها و كل آلامها و تحطُم آمالها يتجسد أمامها في صورة ما تخيلتها حتي في أبشع الكوابيس ... و كأنها ذليلة باحتياجها إليه و انصرافه عنها إلي تلك الجالسة أمامها ، و علام اللوم .. و هي الملومة كل الملامة أن انساقت وراء قلبها الأحمق الذي أوردها حتفها ... .
انتبهت من مشاعرها علي الجرس يدق مرة أخري ، ثم دخلت عمتها و أسرتها ... سلم ياسين عليها و نظرة عينيه تخترقها و لمعة الحزن فيهما تشي باحساسه بقلبها المعذب ، سلمت عليه بأوسع ابتسامة كاذبة ممكنة  فرد عليها بأخري شاحبة و هو يعلم أن اتساع الابتسامة من قوة الألم و مرحها المصطنع تحاول أن تخفي به كسرة الحزن بنفسها.
لم تعد مرة أخري للنظر إليه بعد السلام و هي تعلم أنه وحده يري ما تحت القناع ... وحده يري لمعة الدمع في عينيها .. وحده يري ارتجافة الشفتين و هرب الكلمات .. ظل يرقبها و كأنه يعتقد أنه إذا ركز قليلا ربما دفقات حبه تصل إليها لتنير ظلام صدرها و تشيع الدفء في قلبها ... ظل يرقبها و وجعها يقتله ... و صبرها و اصطناعها يمزقه أشلاء و كأنه يود لو يقوم ليحتضنها بعنف لكي تبكي بين ذراعيه ... و كأنه يود لو يرتمي تحت قدميها .. حبيبتي أرجوكي  لا تعذبيني بإخفاء ألمك و كتمانه بنفسك .. أنت أرق من أن تتعذبي .. أيتها النقية البيضاء التي آلمتني عن غير علم ، أفديكي بعمري يا عمري ... بل أفدي بعمري كله دمعة واحدة تنسال من عذب عينيك ... .
أعاده صوت صباح إلي عالم الواقع و هي تدعو الضيوف إلي المائدة ، فقاموا لتناول العشاء و بعدها جلسوا يتسامرون و يتحدثون و يضحكون حتي ليحسب الرائي أن هذه نفوس لم تعرف الكآبة و قلوب لم تذق المرارة قبلا ، و كلُ قد أقفل نفسه علي ما فيها .




و عندما دقت الساعة الحادية عشرة ، كان كلُ قد انصرف إلي بيته و لم يبق سوي باسم الذي تعمد البقاء مع الجد قليلا عل الفرصة تسنح له بمفاتحة نور في موضوع الزواج ، و بينما هو جالس في الصالة رأي نور تتجه إلي الشرفة فأنهي كلامه مع الجد و ذهب إليها .
دخل الشرفة بخفة و لم تشعر به نور التي كانت في عالم آخر و عيناها ملئي بالدموع ، لمس باصبعه كتفها فانتبهت و مدت يدها بسرعة إلي عينيها تلتقط الدموع التي كادت تسقط و قالت بابتسامة مرتبكة :
أفزعتني يا باسم ، حسبتك انصرفت
رد ضاحكا :
لم أقصد ، أنا فقط كنت أراجع بعض الأوراق مع جدو ثم رأيتك تدخلين الشرفة فجئت لأسلم عليك و أعتذر عن عدم مجيئي الأسبوع الفائت حين كنت مريضة
ابتسمت في شحوب و أشارت بيدها أن لا شئ لتعتذر عنه و تمتمت في خفوت أنها أحسن الآن .
 ساد الصمت بينهما قليلا ثم قال باسم ملتفتا إليها و هو يبتسم :
تبدين ساحرة الليلة
توردت وجنتاها في خجل و استعجبت قوله في نفسها ، فما وجه لها كلمة مديح كهذه قط و ردت في خفوت :
شكرا
فأكمل و ابتسامته تتسع و عيناه مركزتين عليها :
لون الفستان منعكس علي لون عينيك في جمال غير طبيعي ، ربما لم أقل لك هذا من قبل و لكنك حقا أجمل من رأيت من الفتيات و أكثرهن رقة
اصطبغ وجهها بلون أحمر قان و صارت لا تدري بما تجيب و قد بلغت بها الدهشة مبلغها ... باسم الذي لم تكن يوجه إليها يوما كلمة مديح ، يتغزل الآن في جمالها .. أجن أم ماذا !
ساد الصمت مرة أخري للحظات و كل منهما يتشاغل بمراقبة الطريق ثم قال :
أتعرفين يا نور ما الشئ الذي دائما ما يخفف عني تعب العمل و شقاءه ؟
ردت في خفوت حذر :
ماذا ؟
أنت ....  نعم ... أنت ، ربما هذه هي المرة الأولي التي أعترف فيها بذلك ، لا أدري حتي ما دفعني لكي أقوله لكي الآن و لكن الراحة التي تغمرني في حضرتك و الأنس الذي تملئين به كياني حين تتواجدين ملك علي نفسي فوجدتها تبوح لكي به دون أن أدري
اتسعت عيناها و صارت تتمني لو تنشق الأرض و تبتلعها في هذه اللحظة هربا مما هي فيه بينما أكمل باسم و قد عاد للنظر إليها :
لا تدرين كم هي نقية و عذبة تلك الراحة و السكينة التي أحكي لكي عنها و كم أتمني لو تدوم ... نور ... إني أتمني فقط لو أظل بقربك ما بقي من عمري ، فتلك هي عين السعادة بالنسبة لي
و كم أتمني من كل قلبي .. لو ... توافقين ... أن نقضي بقية العمر سويا .. ؟
صمت تام ساد بينهما بعد كلمته الأخيرة ، و نور لا تصدق أنها سمعت هذه الكلمات بالفعل و لا تدري ماذا تقول ... باسم .. باسم الذي لم تره يوما إلا و هو يناقش أمور العمل مع جدها أو يراجع معه أوراق و يستشيره في أمر من أمور الشركة تكتشف أنه كان يهتم بها كل هذا الاهتمام و يكن لها هذه المشاعر .. غير معقول .. و متي يقول هذا .. الآن ..  و هي تعلم حق العلم أن عمر لم يعد لها  ... فرصة ذهبية للنسيان مع شخص يحبها و يعرض عليها أن يقضي معها ما تبقي من عمره !!
قاطع باسم أفكارها قائلا :
أعلم أن الأمر مفاجئ لك ، و متفهم بالطبع أنك قد تحتاجين وقتا حتي تتخذي قرارك
قاطعه لسانها قبل أن تفكر :
لا
مضت بضع لحظات ثقيلة و هي لا تعلم لم فعلت ذلك و لكنها أكملت :
باسم ، أنا حقا لا أفكر الآن أن أرتبط بأي انسان و ... أمامي أمور كثيرة أحتاج أن أفكر فيها متعلقة ب... مستقبلي و ما سوف أفعله في الحياة و لا أريد أن أظلمك معي
 غاصت ابتسامته و تجهم وجهه و شعر و كأنها لطمته علي وجهه بكلماتها ، أحقا رفضته بهذه السهولة و لم تأخذ وقتا حتي للتفكير !!
شعرت بالألم لما أحدثته كلماتها من أثر في نفسه و أحست أنها لم تراع مشاعره و إن كانت في قرارة نفسها تعلم أنها اتخذت قرارا صائبا ، حاولت أن تقول شيئا فأشار بيده أن لا داعي للكلام و قال بهدوء لا يحمل أثرا للعاصفة الدائرة بنفسه :
تصبحين علي خير
ثم انصرف .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي