سيعود .. ؟






كانت آخر صورة في يدها ...
وضعت بعض الغراء علي عمود النور ...
ثم ألصقتها و هي تمر بأصابعها في شوق و حنو علي ملامح وجهه ..  انقبضت يدها حين اصطدمت بكلمة "مفقود"
تلألأت عيناها بالدموع ... مر ما يقرب من سنة علي غيابه منذ فُقد في أيام الثورة ...
مفقود يا حبيبي .. و انا من بعدك فقيدة ..
مسحت دموعها و هي تطمئن نفسها قائلة ... سيعود
بخطوات هزيلة عادت إلي البيت لتستقبل ابنها الوحيد منه عائدا من مدرسته ...
ظلت كالنحلة طوال اليوم .. تدور في أرجاء المنزل مخترعة أعمال لا وجود لها حتي لا تنفرد بنفسها ..
حتي لا تجالس وحدتها .. و تلتقي بدموعها ..
و في الليل .. حيث الخيالات المرهقة ...
و الأعصاب التلفة ..
و الاحتمالات التي لا حدود لها ...
أمازال حي .. ؟
؟؟
و إذا كان حي ... لماذا لم يعد حتي الآن ؟
 كيف استطاع أن يعيش دوني ...
يعيش .. !
من قال أنه يعيش ..
قد يكون مات ..
تتسع حدقتيها فزعا ...
تشعر بانتفاضة ترج جسدها ..
ثم تنفجر في البكاء ...
فتبكيه و تبكيه و تبكيه ...
و تتخيل جثته .. تارة مضرجة بالدماء ...
و تارة ملقاة في الشارع ..
تتخيل من يحمله بعيدا ...
جثة مجهولة كمئات الجثث ...
ثم يصلون عليه .. و تمشي معهم في جنازته ... بذهول ...
تكاد تسمع صرخاتها أمام قبره و هم يدفنون جسده الحبيب ...
حتي يبتعد ...
فتبكيه و تبكيه و تبكيه ...
حتي ينفطر كبدها حزنا ..
ثم تفيق من خيالات جنازته علي تنهيدة ملتهبة و صوت في قلبها يخبرها أنه ... سيعود ..
سيعود ..
ربما لا يستطيع أن يعود ...
ربما يحتجزونه في نفق ما في أمن الدولة ..
ربما يعذبونه الآن ..
فتعود تبكي صرخات ألمه .. و تشهق من تصورات تعذيبه ...
تضمد جراحه و تمد يدا في الهواء تلمسه ...
فتقع في الفراغ ...
منهارة ...
تزحف في الظلمة حتي ثيابه التي كانت آخر ما لبس ...
تحتضنها بقوة كأنما تضمه ..
تغمر نفسها في رائحته ..
حتي تنام ...
ثم تصحو بأمل جديد ...
ربما سيعود اليوم ...
كل يوم يحمل أمل بأن يعود ..
كل يوم ...

لحية بيضاء ناصعة






هادئا ... خلي البال .. مشي واضعا يديه في جيبه ..
شعر باهتزاز هاتفه المحمول، ألقي نظرة عليه فوجده صديقه الذي ينتظر قدومه ...
كان أمامه شارع واحد و يصل إلي مكان تلك الندوة الدينية الذي دعاه إليها ..
آثر الا يرد عليه ... يكفيه أن استجاب لدعوته و أتي و هو الذي كان راغبا بيوم كسول يستلقي فيه دون حراك ...
عشر دقائق و كان قد وصل عنده ، فلاقاه صديقه بإقبال مرحب ..
لم يكلف نفسه اخراج يديه من جيبه ...
لا يدري ... لديه اليوم مزاج تأملي كسول بامتياز ..
رد علي تحيته بابتسامة ثم استمع له و هو يخبره أنه سيغيب عشر دقائق فقط ليحضر شيئا ثم سيعود ليدخلا سويا ...
أومأ له برأسه أنه سينتظره ها هنا ...
استند إلي سيارة مركونة بجانب الرصيف و أخذ يراقب تلك القطة البنية الصغيرة و هي تموء ...
جائعة ربما ...
بحذر القطط اقتربت من عامل نظافة جالس علي الرصيف المقابل يقضم من سندويتش في يده ..
نظرت إليه نظرة استعطاف ...
فابتسم لها ...
قاطع مقدم صديقه تأمله لذلك المشهد ...
و لكن لمح بطرف عينه قبل أن يدخل المبني ، ذلك العامل يقتطع جزءا من طعامه و يعطيه للقطة الصغيرة و هو يدعك فروها بلطف ...
انفرجت شفتاه عن ابتسامة تحية للموقف الانساني الذي عده نادرة من نوادر الزمن ...
دخل إلي القاعة التي بها الندوة ..
جلس في صف أخير مستمعا للشيخ الوقور ذا اللحية البيضاء الناصعة ..
متحدثا عن الرحمة و التراحم .. و رقي أن يكون تبسمك لأخيك صدقة ...
كان يستمع بنصف أذن ...
و هو يفكر ساخرا ..
لعله أصبح مصابا بمرض لحيو فوبيا ..
فوبيا تصيب من يعتقد أن عميقي الايمان حقا لا يحتاجون إلي اللحي البيضاء الناصعة .. تكفيهم قلوبهم البيضاء النقية ..
انتهي الشيخ من محاضرته ... ثم خرج من القاعة بعد السلام علي محبيه واحدا واحد ..
بإجابات دبلوماسية قصيرة كان يرد علي صديقه الذي تواترت أسئلته عن رأيه في الشيخ الجليل و هما يخرجان من المبني ...
طرق مسامعه لفظ عنيف ... قاس
فنظر متجهما .. وجد اللحية البيضاء الناصعة فوقها فم يقطر سما علي العامل الذي رآه منذ قليل ...
مؤنبا إياه علي عربة النظافة المتسخة التي ارتكنت علي سيارته خادشة سطحها ...
أطرق للأرض في أسي متذكرا قول د/ مصطفي محمود "اذا اردت ان تفهم انسانا فانظر فعله في لحظة اختيار حر وحينئذ سوف تفاجأ تماما فقد تري القديس يزني وقد تري العاهره تصلي,وقد تري الطبيب يشرب السم,وقد تفاجأ بصديقك يطعنك وبعدوك ينقذك وقد تري الخادم سيدا في افعاله والسيد احقر من احقر خادم في اعماله وقد تري ملوكا يرتشون وصعاليك يتصدقون".
غمغم في حزن ...
 الله يرحمك يا دكتور مصطفي

فراشة






شعر متطايرة خصلاته جمعته فوق رأسها في كرة عجيبة لفتها حول فرشاة الألوان ...
بتركيز شديد مالت علي اللوحة أمامها تضع عليها لمساتها الأخيرة ...
بضع دقائق ثم ابتعدت للوراء ..
أخذت تنظر لها من زوايا مختلفة و ابتسامتها تتسع ...
ثم اقتربت مجددا .. و اضافت بعض الرتوش ..
نظرة أخيرة ...
ثم ابتسامة عريضة شملت وجهها الطفولي كله و هي تصفق بيديها ..
"رائعة"
تأملتها لحظات سعيدة بما أنجزته ...
و نشوة متألقة انعكست علي وجهها الذي أشرق ...
كم تسعد حين تكون اللوحة وفقا لما تخيلته تماما ...
ستضعها في منتصف القاعة يوم يتحقق حلمها بإقامة معرضها الخاص ...
شعرت برغبة مفاجئة في الاحتفال ...
فتحت النافذة علي مصراعيها تاركة نور الشمس يتدفق داخلها ...
وضعت قطعتها الموسيقية المفضلة و أخذت تتمايل علي وقعها ...
دائما الفن يجعل روحها تتفتح كفراشة لتوها غادرت شرنقتها ...
شعرت ان كل هذا لا يكفي ...
تحتاج لاحتفال أكبر مع نفسها ...
كلمة سحرية وحيدة صفقت لها في سعادة ...
"تسوق ... ستذهب للتسوق .. "
ثم ستكافئ نفسها بكأس آيس كريم كبير ..
ارتدت ملابسها و هي تشعر أن تلك الفراشة المتفتحة داخلها تطير حولها سابحة في ضوء الشمس ....
تركت شعرها حرا علي كتفيها بعد أن ساوته ...
 ثم تناولت مفاتيحها و خرجت ...
 ظلت تتجول بين المحلات و لم تتجنب كالعادة النظر إلي نفسها في الواجهات ...
كانت راضية تماما علي نحو أعطاها دفعة ثقة عالية ...
أعجبتها قطعة ملابس .. فدخلت إلي المحل الخالي من الزبائن و وقفت تقلب بين أرففه قليلا ..
لم تلبث أن وجدت فجأة فتاة تقف خلفها مرتدية زي المحل ...
ثم قالت لها بلهجة مفتعلة الرقة ...
" احم .... مم .. للأسف كل المقاسات هنا صغيرة ... محلنا الآخر توجد فيه كل المقاسات "
انطفأت فراشتها قليلا و انخفضت أجنحتها في خجل من تعليق الفتاة علي حجمها الذي ورثته عن أباها ...
أرادت أن تكيل لتلك السخيفة بضع لكمات و لكن كانت فراشتها لازالت تحلق فارتأت أن تتجاهلها حفاظا علي مزاجها الرائق ..
ظلت في المحل بضع الوقت معاندة ...
ثم خرجت للخارج ...
أعاد لها استنشاق الهواء بعضا من حيويتها و ابتسامتها الجميلة ...
ثم أسرعت الخطي قليلا مبتعدة و هي تري شابين قادمين نحوها و أحدهما يغمز بعينه معاكسا جمالها ..
خبأت ابتسامتها التي سعدت رغما عنها بمعاكسته ...
ثم رأت صديقه يضحك و تناهي إلي مسامعها ..
" و دي هتعاكسها من أنهي اتجاه دي !! "
توقفت أجنحة فراشتها عن التحليق و هوت إلي الأرض ميتة ...
نظرت إلي الأرض في أسي ..
و في سخرية مريرة فكرت ...
ربما لست فراشة حقا ... لا توجد فراشة في حجمي !

كرسي مريح






غاص في كرسيه المريح القريب من النافذة ...
و عيناه ساهمتان في الفضاء المطل منها ...
و كأنما يعكس فضاء نفسه و فراغها ...
هبة هواء باردة لسعت أطرافه ...
مد يده ليغلق الزجاج ..
فعلق بصره بيده المغضنة الذابلة ...
سنوات عمره الستون محفورة تجاربها في تقاطعات جلده الشاحب ...
و كأنما العمر لحظة ...
كأنما كل الأحلام و الآمال . و حيوية الشباب .. و اللهاث خلف لقمة العيش ..
كأنما كان ذاك لحظة ..
نصف ابتسامة ساخرة ..
كأنه أنفق عمره كله لقاء هذه الجلسة المريحة بجانب النافذة ...
وحيدا ..
حاول أن يهرب من وحدته فتناول رواية جانبه ...
انهمك في مشاعر أبطالها و استغرق فيها ..
متجاهلا ذلك الشعور الملح السخيف ..
ما فائدة المتعة حين لا تجد من يشاركك إياها ...
طرقت مسامعه ضحكات عالية مختلطة بسباب و شتيمة ...
ابتسم في حنان و قد عرف فيه صوت ابنه و أصدقائه ...
ألقي عليهم نظرة من النافذة و هو يراقب حيوية الشباب فيهم و كأنما يود لو يسرق منها قبسا ..
يود لو كان مقعده الآن خالي و كان واقفا يتلقي لسعات البرد معهم بصدر مفتوح .. بلا وحدة و لا هموم ..
رآهم ينصرفون و ابنه يدخل العمارة ..
مني نفسه بمزاج ولده الرائق .. لو فقط يعطيه بعضا منه ..
فتح الباب بمفتاحه ... لم ينتبه لأباه الجالس في الصالة ..
فناداه ..
مشي ناحيته متثاقلا ..
فلما رآه قال بإبتسامة تحمل كل الرجاء ..
" ألا تأتي نشرب كوبا شاي معا"
فرد ابنه بابتسامة متعبة ..
" لا أستطيع والله يا أبي ... من الصبح و أنا في الكلية .. لا أستطيع أن أرفع رأسي حتي "
لم يرد عليه ..
فقبله ابنه قائلا ..
" تصبح علي خير "
ثم انصرف ...
راقب شبابه وحيويته ينسحبان معه ...
و بأسي أمسك روايته مجددا و هو يفكر ..
كان يرغب فقط ...
في بعضا منه ..
له ..

الفرصة الأخيرة






راقبها من بعيد و هي تجتاز القاعة بأناقة و كبرياء ملكة ...
و فستانها الأبيض ينسحب علي الأرضية وراءها و كأنما يترك نتفا من ثلج ...
فيها شئ يذكره بالشتاء ...
نفث دخان سيجارته و أخذ يراقبها من بين الدخان المتصاعد في متعة ..
متعة سيجارته المشتعلة و احتمالية قصة جديدة تشوق لها قلمه ...
عنق مرمري يزين كتفيها الانسيابين في أنوثة تكشف عن نفسها بلا موارابة ...
جلست علي مقربة منه ...
كان بعيدا بما يكفي لئلا تلاحظه ...
و قريبا بما يكفي ليلاحظ تفاصيلها ...
في عينيها شئ يثير الشجن ...
و انحناءاتها تشي بصقيع  فراغ عاطفي يبحث عن دفء الاحتواء ...
بأصابعها الطويلة الرقيقة تناولت كأس العصير بهدوء يخدع أي عين ...
إلا عينيه الخبيرة التي التقطت ارتجافة شملت أطرافها لثانية ...
أخذ نفسا أعمق من سيجارته التي التصقت بأصابعه ...
و كأنما تترقب مع صاحبها الحركة التالية منها ...
ظلت ساكنة مصوبة بصرها تجاه الباب ...
و مع كل انفراجة ضئيلة تشرئب في أمل ...
ثم تعود لتستكين في خيبة ...
ظل يرقب معها القادمين و يخمن أيهم تنتظره تلك الفاتنة ...
ثم رنة خافتة من موبايلها الملقي علي الطاولة ...
تحرك بمقعده قليلا لكي يسمع الحوار في فضول بلغ مبلغه ...
كانت تكلم فتاة أخري ...
صديقتها ربما ... أو أختها ... أيا كانت يبدو من الكلمات أنها تلك التي تحفظ سرها ...
" لم يأتي بعد"
صمت قصير ..
" هذه المرة وعدني أنه لن يخيب أملي "
انزعاج في ارتفاعة حاجبها ... ثم حدة في صوتها ..
" لا .. هذه هي الفرصة الأخيرة "
بصوت خافت سمع بصعوبة ... " كفاني خيبات أمل "
تنهيدة من شفتيها الرقيقتين ..
" سيأتي هذه المرة .. لقد وعدني "
صمت قصير ثم أقفلت ...
ظل معها يرقب قدومه و كأنما من فرط تأملها صار يشاركها الانتظار ...
نصف ساعة ..
ساعة ...
و هي علي ما هي عليه دون حراك ...
و هدوء قاتل يسود ملامحها ...
ثم تناولت حقيبتها في النهاية و غادرت ...
بنتفات الثلج يتركها ثوبها الأبيض ...
كأنما الشتاء اتخذ من روحها موطنا ..
احترقت سيجارته الخامسة حتي النفس الأخير ...
استعد للرحيل ...
ثم شاهد ...
فتي مسرع يسأل الجرسون في جزع عن طاولتها ...
ثم تحول الجزع إلي أحزان محفورة علي جبهته و هو يتمتم ..
قارئا شفتيه ..
كانت الفرصة الأخيرة ..
تنهد في أسي و هو يشاهده يرحل  ..
لماذا نترك الخيبات تتراكم دائما حتي الفرصة الأخيرة

ليتها كانت لا تبصر




شارع مزدحم ، ضوضاء مزعجة ، كلاكسات لا تتوقف ...
 بخطوات سريعة أقرب للعدو تحاول أن تصل إلي آخر الرصيف لتدخل في شارع جانبي .....
ضربة تلقتها علي كتفها من آخر مسرع في الاتجاه المعاكس ، شتيمة قذرة تنهال من فمه عليها و علي عماها ....
" لعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثر ما خرج من فمه كذبا في وصفها "
 هكذا فكرت في نفسها ...
 ليتها كانت عمياء لا تبصر ، إن بلواها في الحياة أنها بصيرة بكل ما يجري حولها ...
أكملت طريقها و نهاية الرصيف تبدو بعيدة ... بعيدة و كأنها لن تصل أبدا ....
استوقفها طفل لا يجاوز الثامنة من عمره ، يغطي وجهه الأسمر النحيل أوساخ التراب ... لا تدري .. أم أوساخ الحياة ...
 و ندبة  بطول خده الصغير الجميل تشق قلبها و تترك بجانب الجروح الكثيرة جرحا جديدا لن يندمل كسابقيه ...
 بعينين ذاهلتين مليئتين بالدموع ظلت تحدق فيه و هو يتحدث بسرعة أمامها ، مادا يده للأمام للحصول علي ما عسي أن تجود به عليه ...
 لم تتحرك و ظلت ثابتة مكانها و كأنها فجأة وجدت نفسها في مواجهة مع نفسها ....
 أتغوص بيدها في عمق الجرح و تعطيه كما يعطيه الآخرين ..
 و كأنها فجأة اكتشفت أن ليس بإمكانها أن تمحو شقاءه ...
حتي و لو استطاعت أن تمسك هذه اللحظة من الزمن فتسعده ، فإن جذور الألم ستظل ضاربة في الأعماق بلا نهاية ...
فيه .. و في كل من يشبهه .. .
كان قد مضي من أمامها قبل زمن و لعله حسبها مجنونة ، و هي ما زالت زاهلة مكانها ...
انتبهت لرحيل عينيه الواسعتين من أمام ناظريها ، فعادت تتحرك بخطوات هزيلة ...
 و كأنها تجر قيود الشقاء .. .
قاربت من نهاية الرصيف لتدخل الشارع الجانبي الهادئ ...
عيناها اللامعتان بالدموع تحولتا للون أحمر قاني حتي تحسب أنهما تكادا تنفجرا ، و لكنها الآن أضعف من أن تثور ...
يداها تتشبثان بالسور بجانبها و هي تكاد الآن تزحف لتخرج بنفسها من ضوضاء الناس و صخبهم إلي الشارع الجانبي الهادئ ...
ليت احساسها كان متجسدا أمامها الآن لقتلته فورا و بلا تردد ... ما أشقاها باحساسها بشقاء الناس ...
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأنك توحدت مع الكون حولك ، و امتزجت بكل ذرة ألم سابحة في الفضاء....
كانت قد دخلت الشارع الجانبي الخالي من الناس و مشت خطوات فيه ...
 لا تدري ...
 أكانت من الناس .. أم من نفسها .. تهرب ...
للأسف هدوء الشارع و خلوه من الناس لم يسكت صرخات الألم الشقية في كيانها ....
باتت تشعر و كأنها جرح كبير مفتوح لكل سمة شقاء تلمحها علي أي وجه ، و كأنها تشعر بآلام الناس أكثر منهم ...
 و كأن كل تقطيبة جبين لكل شخص كان في الشارع المزدحم تحكي لها حكايات شقاءه و تفتح جراحا جديدة في نفسها ...
و كأن مجرد وقوف الطفل أمامها ، رأت فيه الطفولة السعيدة التي كان يستحقها و لم توجد ...
الفراش الوثير الذي لم يطله جسده اللين ، بل تكسر بدلا منه علي حجارة الرصيف القاسية ...
و نهش البرد القارص جسده الغض و كل في بيته دافئ ... .
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأن رهافة الحس تكاد تقتلك و أنت لا تزال حيّ ... .
كل الناس تتأثر للحظات ، ثم تنسي الألم و تكمل حياتها لاهية عابثة ، إلا هي ... .
أحياناً ، لا تدري أقسوة الحياة و انشغال الناس عن بعضهم سخط الله أم نعمته عليهم ...
لا تدري ، أاحساسها بشقاء الناس حولها و رغبتها العارمة في تخفيف آلامهم و الحنو عليها و تطييبها ...
تلك الرغبة التي تنقلب عجزا أمام قسوة الحياة و ظلمها ...
 أهي رهافة حس و احساس بالناس يُحمد ، أم ابتلاء عليها أن تتعايش معه في كل لحظة ...
 ليتها كانت جامدة الحس مثلهم ..
لا تشعر إلا بنفسها ..
 و لا تري إلا حالها ..
ليتها كانت لا تبصر

حاسة ملَكية






دائما كنت و مازلت أعتقد أن حاسة الشم هي الأكثر تميزا و ملكية بين جميع الحواس علي الاطلاق ..
إنها الحرية في أنضر صورها و أبهاها ..
الحنين في أكثر لوحاته شجنا ..
الشغف في أشد لحظات جنونه ..
إننا حين نغمض أعيننا و نطلق لحاستنا أن تتلمس طريق الروائح ..
إنما في الحقيقة نطلق العنان لخيالنا .. لأقصي طموحاتنا و أحلي أحلي آمالنا لتتحقق تماما كما كنا نتخيلها دائما ..
إنه التجرد الأفضل من كل الأحكام المسبقة  ..
إنها فقط الرائحة تتسلل إلي أنفك مشبعة بالحياة .. تاركة لك كل الحرية أن تصيغ شكل هذه الحياة كما تشاء ...
إن رائحة النعناع العطرة ترسم لك لون أخضر مبهج .. يحمل تفاؤل ساعات الصباح الأولي ...
و عبير وردة تضوعت بكل ما فيها من عطر لكفيل بجعلك تكاد تشعر بملمس قطرات الندي علي شفتيك ..
رائحة البحر هي التي تخلق طعم الملح الذي ينساب في خلاياك ..
رائحة .. أمي
حنو الحضن المشبع بالدفء و الأمان ..
رائحة حبيبتك ..
ذلك العطر الفواح من النعومة و الأنوثة الذي ينتقل إليك دون أن تمسها ..
فقط بأن تستنشقها ..
 عميقا ..
رائحة حبيبك ..
حين تضمي ثيابه إليك ..
حين تغمري نفسك في حواسه المعطرة بك ..
إن الرائحة لهي دائما الدليل الأوثق لأجمل ذكرياتنا ..
إننا قد ننسي اسما .. أو شكلا ..
لكنا أبدا لا ننسي أجمل روائح الذكريات .. تلك التي توقظ الحواس في لحظة ..
تبعث فيك نشوة السعادة التي احتوتك يوما .. حتي و إن لم تتذكر الموقف ..
لن تنسي أبدا رائحة الاحساس ..
إنها حقا حاسة ملكية متوجة علي جميع الحواس ..

سأعود إليك






أمسكت كتابا أدري أنه لامس راحتيك ..
التقط بعضا من عطرك ..
و آنست ورقاته .. أنفاسك..
أقرب كلماته مني و أبقيها علي اختلاط بأنفاسي ..
و بقايا أنفاسك ..
أقلب صفحاته بدفء أناملي ..
و أتمني داخلي ..
لو كنت لحظة قرأته تفكرت بأناملي ..
و باحتياجك لدفئي ..
أنفصل عن العالم حولي ..
و أنغمس فيك ..
في الكتاب .. أقصد ..
في كل كلمة أعرف أنها تصفني و تصفك ..
تصف كل ما لم يحدث بيننا ..
و نرجوه ..
كل رجفة شوق ..
و اندفاعة عشق ..
و لذة لقاء ..
تحيا في كلمات هي أقرب ما تكون .. للحياة ..
أتوقف عند كل فاصلة و نقطة أعلم أن عينيك مرت بهما ..
ما أجمل عينيك ..
ما أعمق عينيك ..
أستعيد قراءة المقاطع التي أحببتها ..
أعلم أنك أحببتها من فرط وصفها لجنونك .. و عشقك .. و احتياجك ..
و اجتياحك ...
أغمض عيني عند كل حنو جارف .. مكتسح ..
 من حضن .. أحسبه ليس إلا حضنك ..
ثم أخبئ وجهي كالبطلة التي أحسبها ليست سوي أنا ..
في صدرك ..
كل الأبطال أنت ..
و كل أنثي تحتل البطل .. و تسكنه ..
 هي أنا .
كل القصص قصتنا ..
 ....
نفس عميق داخلي ..
أسيطر به قليلا .. فقط قليلا ..
علي احتلالك ..
أكاد أثني طرف الورقة عند الصفحة التي توقفت فيها ..
فأذكر كم تكره ذلك ..
فأعدل و ألتقط ورقة أطويها داخله ..
أطويها علي مشاعري ..
و أنا أعلم ..
أنك ستحب أني تذكرتك ..
و تجنبت ما تكره ..
أغلق الكتاب ببطء ..
و كأنني أسحب يدي من يدك علي استحياء ..
فأشعر بك .. 
بالكتاب..
 يمتعض حزنا لابتعادي ..
فأعود أمسح علي ظهره بحنان ..
سأعود إليك ..

كيف يمكن اثبات وجود الله !






كيف يمكن إنكار وجود الله !

صمت طويل من قلمي .. إنه حقا سؤال تعجيزي

تعجيزي في إجابته و تعجيزي في نفيه ..

تعجيزي أن يكون هناك حقا من ينكر وجود إله في هذا العالم المتوازن الدقيق الذي ينتظم في كل لحظة بدقة متناهية و سلاسة مبهرة ...

تعجيزي أن يعتقد عاقل أن هذا الكون الواسع الهائل بكل مخلوقاته المتكاملة من أصغر جرثومة لا تُري إلي أضخم حيوان... وُجد هكذا .. فجأة .. دون أن يتسائل عن سر الوجود أو مصير الفناء ..

دون أن يتسائل عن كيفية سيره و انتظامه .. !

سؤال تعجيزي حتي في نفيه .. كيف يمكن أن أثبت وجود الله ..

كيف يمكن إثبات "الوجود" ... فالله هو الوجود و كل ما سواه عدم ..

كيف يمكنني أن أمسك الضوء لأعطيه لأعمي ..

كيف يمكن أن أصف الألوان .. أو أجسد الروائح ...

كيف يمكن وصف الوضوح .. كيف يمكن أن تصف الحياة !!

كيف يمكن أن يعيش انسان موقن أنه لا إله في الكون ..

إنه تصور مخيف و مفزع إلي أقصي درجة ..

إنه الشر المطلق دون إمكانية وجود خير ..

إنه الظلم دون أمل في عدل ..   

إنه القهر دون القدرة علي الاستعانة ..

كيف يستطيع الانسان أن يعيش دون أن يكون في مقدوره حين تضيق به الأرض و تضيق عليه نفسه أن يصرخ

ياااااااااااااااااااااااااارب

كان يمكن أن يخلقنا الله دون أن نعلم عن وجوده شيئا ...

و لكنها حقا رحمته ..

خير دليل و خير شاهد ..

علي الوجود الأعظم ..

علي منبع خلق الانسان ..

و كل ما يصاحبه من صفات نصفها بالإنسانية ..

بينما هي في الأصل ..

صفات ربانية ..

لا يمكن اثبات وجود الله ..

لأنه فوق كل اثبات ..

لأنه لا يحتاج إلي اثبات ..

إنما يحتاج إلي نور يهدي القلب إليه ..

و ذلك لا يكون إلا منه .. وحده ..

" نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "

(35) النور

الحمد لله علي نعمة وجود الله ..

الحمد الله أننا نعرف أنه لا إله إلا الله ..

ساذجة




كم كنت ساذجة إذ فكرت أنني اخترتك ... أنني بإرادتي أحببتك ...
كم كنت ساذجة إذ اعتقدت أن الحب قرار أو اختيار ..
إن الحب هو الذي يختارنا و لا نختاره ..
إنك الحب الذي ظل يطاردني دون أن أعرف .. فأهرب منه جريا خوفا من المجهول .. حتي تقطعت أنفاسي من لهاث الهرب .. فانهارت قدماي لتلتقطني .. أنت .. بين ذراعيك ..
كم تملصت منك فزعة ...
كم كنت كاذبة في تملصي و قد استعذبت دفء حضنك ..
حملتني إليك ... و قبضت علي بقوة و أمان .. تكون مجنونة الأنثي التي تتركهما ..
صرت لي مأوي و ملاذ ... نسجت لي عشا صغيرا بجانب قلبك ثم أطلقتني ..
تعثرت فأقبلت علي كأنما أنا طفلتك .. و برقة أصابعك فردت جناحي المضمومين و علمتني الطيران ..
أطلقتني .. أطلقت كل جنون و براءة الطفلة ..
كل شغف و وهج الأنثي ..
كل حنان و دفء الأم ..
و كنت كل ليلة أعود لأبيت ليلتي في عشك ..
الذي أصبح عشي ..
أحببتك ..
أحقا أحببتك ..
أكان ذلك حبا .. أم حياة ..
صرت حياتي ..
بكل ما فيها ..
صرت نفسي ...
فلا أعرف لي نفسا و لا تعريفا إلا بك ...
و اليوم حين أتذكر ..
لم أختر أن أحبك ..
أنت قدري ... قدر لا مهرب منه إلا لأقع فيه مجددا ..
اليوم امتلكت نفسي التي لا تتوق إلا لتكمل نقصها فيك ..
اليوم مهما أبعدتني أو بيدك نفضتني عن عشك ..
عدت إليك أمسح جناحي الصغيرين في ذراعك مستسمحة العودة إليك ..
اليوم مهما آلمتني .. أخبئ آلامي في طيات نفسي خوفا من تكتشفها يوما فتجزع لصنيعك ..
اليوم إذا غضبت مني .. لم أملك إلا أن أتسلل حين تنام .. لأطبع قبلة مبللة بدموعي علي خدك ... كأنما حرارتهما تنطق كم أحبك ..
 كم آلمتني ..
اليوم لا أملك إلا أحيا بك ..
أن أبذل نفسي لاسعادك ..
أن أنفق عمري لقاء ابتسامة رضا من شفتيك .. أو ضحكة سعادة ..
لا أملك إلا حين أجد نفسي تشتهي شيئا .. أن أسرقه منها لأهديه لك عن طيب نفس و خاطر ..
لا أملك إلا أن أحياك ..
فالأرض لا تملك إلا أن تعشق ساكنها ..
و الوطن دائما يحتضن أحبابه ..
كم كنت ساذجة إذ اعتقدت أني اخترت يوما أن أحبك ..

رجل المستحيل !




 
أخذت أصابعها تعبث في الشنطة باحثة عن المفاتيح التي اختفت فجأة كعادتها كل يوم تلعب نفس اللعبة مع نور السلم الذي ينطفئ بمجرد أن تبدي رغبتها  في فتح باب الشقة .

 بمهارة من اعتادت اللعبة أخرجت المفتاح من وسط آلاف الأشياء التي لا تدري سبب وجودها .. فتحت الباب و انسلت إلي الداخل و هي تطلق الحذاء من قدميها التي أدماها الكعب العالي ، وضعت الملف الذي كان بيدها الأخري علي السفرة و هي تفكر أنها لابد أن تنهيه اليوم لتسلمه غداً.

بخطوات بطيئة مرهقة دخلت حجرة النوم ، تناولت ملابسها و إلي الحمام رأسا، عشر دقائق و خرجت بفوطة ملفوفة علي رأسها و هي تفكر أنه لم يبق لها إلا عشر دقائق أخري لتستريح فيها قبل أن يصل باص المدرسة بولديها الصغيرين .

ممممم هناك غسيل علي الحبل و آخر لازال في الغسالة يريد أن يحل محله علي الحبال ..

لابد أن يُنشر اليوم لأن قميص زوجها الأبيض فيه و هو يريد ارتداؤه غداً ، ليت كان باستطاعتها ارساله للمكوجي ، برغم أنه حرامي و لكن خير من المكواة .. آه كم تكره المكواة و تراكمها ..

جرس باب يرن بلا انقطاع في رأسها، ابتسمت في يأس و هي تنظر للساعة التي لم تمض منها إلا خمس دقائق ضاعت في الغسيل و المكواة.

نفس عميق ، شدت قامتها و كأنما عسكري جيش ، بخطوات واسعة ذهبت للباب لتستقبل أولادها الذين قفزوا عليها بغباوة الأولاد الأشقياء، الآن تعلم لم تمنت بنت !

 احتضنتهم بقوة و كأنما تعتذر لهم عن تمنيها و تؤكد حبها، رموا حقائبهم بسرعة في حجرتهم ثم لحقوها إلي المطبخ و هما يتكلمان في نفس واحد عن مشاجرة اليوم .. الولد الجديد بالفصل .. المعلم الذي أعطي أحدهم نجمة .. و آخر لعبة بلاي ستيشن جديدة اتحدا في مطلبهما الحصول عليها...

كانت تستمع لهما و ترد عليهما و هي في نفس الوقت تراقب الزيت علي النار و تحرص علي ابقائهم علي مسافة بعيدة عنه ثم تضع الرز و تعود لتكمل غسل الأطباق المركونة من الافطار ، تزيح أحدهما الذي يصر علي الاقتراب ليري و هي تقلب الرز مجددا .. ابتسمت ابتسامة متعبة و هي تفكر ، ها هي أصبحت رجل المستحيل الذي بمعجزة ما يحرك أطرافه الأربعة في آن واحد خارقا قوانين الطبيعة....

خفضت الحرارة تحت الأرز و تركته ينضج، ثم حملت طفليها تحت ابطيها و هما يضحكان و يركلان بقدميهما ثم ألقتهما علي الأسرة مع أمر حازم أن يبدلا ملابسهما و يستعدا للغداء.

انطلقت للبلكونة من أجل الغسيل ، ثم تركته في منتصفه لتفتح الباب الذي رن مجددا ليدخل منه زوجها ، تنهدت في استسلام مرهق .. يُصر كل يوم أن يضرب الجرس لتأتي ثم يفتح بمفتاحه .. تمتمت في تسليم ... لا إله إلا الله ..

أقبلت عليه فتناولت منه الجاكت و مشت وراءه إلي حجرة النوم و هو يزمجر من الحر و الزحمة و الشغل الذي لا ينتهي و اضطراره أن ينزل في المساء للشغل مرة أخري.

ربتت عليه بحنان و هي تتمتم بشئ عن  أن " كله بيعدي "

تركته فجأة و قد تذكرت الأرز المتروك علي النار ، أطفأت البوتاجاز ثم ذهبت لاعداد السفرة و استغلت الدقائق الباقية في انهاء مهمة الغسيل المعلقة ، ثم وضعت الطعام و جلسوا لتناوله هي صامتة متظاهرة بالاستماع و الأولاد يكررون علي مسامع أبيهم ما لتوهم أخبروها به من أحداث اليوم.

حملت بعدها الأطباق و أخذت تنظف المطبخ ثم خرجت منه بعد نصف ساعة لتجلس بجانب زوجها علي الأريكة أمام التلفاز و قد أرجعت رأسها إلي الوراء بعينين نصف مغلقتين و وجه عابس.

" مالك .. ؟ "

سألها ملتفتا إليها ..

لم تملك إلا ان تبتسم .. هناك أسئلة يكاد يكون من المستحيل الرد عليها .. بأدب !

كانت أعصابه فائرة من الشغل الذي سيضطر للذهاب إليه في المساء ، فتضايق من ابتسامتها التي بدت له مستهزئة فقال بلهجة حادة ..

" مالك ؟ ألم تسمعيني يعني ؟ ! "

التفتت إليه ببطء غير مستطيعة حتي أن تحرك لسانها لترد ، و بهدوء غير عابئة بحدته تناولت ذراعه و لفته حولها و مالت برأسها علي صدره مغمضة عينيها في تعب.

امتص تعجبه من تصرفها حدته ثم لان للينها بين ذراعيه فقبلها علي رأسها فابتسمت ..

ليته فهم أن هذا كان كل ما تتمناه ..

لن أعاتبك بعد الآن






لا أريد أن أعاتبك بعد الآن .. كن كيفما تريد أن تكون " 
لا تتسرع أرجوك ... 
فتظن بي الفراق و الهجر و الابتعاد .. 
أو  الملل و السأم من كثرة العتاب و طول الانتظار .. 
أو تقول فاضت بي مرارة خيبات الأمل و تمنيات الأحلام .. 
لأني أقولها لك بملء نفسي .. نفسي التي هي أنت .. و أنا قطعة منك .. 
تقولها لك أصابعي تكتبها ببطء و حنو و كأنما تترفق حتي بالكلمات التي ترسلها إليك .. 
أقولها مطمئنة .. ساكنة .. لما تريده أنت .. 
كن كيفما تكون سيدي .. سأظل دائما بانتظارك .. 
سيظل وطنك داخلي يحلم بعودتك و إن رحلت .. 
لن أعاتبك بعد الآن .. لأني أخشي علي قلبك من عتابي .. 
أخاف من حزنك علي حزني .. و ما يروعني سيدي قدر حزنك في الحياة .. 
و كيف تكون هناك حياة و حياتي معلقة علي ابتسامة شفتيك ... 
كن كيفما تكون سيدي .. فأنا أمانك و بين جنباتي أحفظ راحتك .. 
فلا ... ليس مني العتاب و ليس مني الملام .. 
ليس لك مني سوي كل حب و احتضان و مواساة و صداقة و اطمئنان ... 
فكن قاسيا إن شئت أو حنونا دافئا .. 
فأنا لا أحبك لحنوك و حبك لي .. 
و لكني أحبك لأنك أنت .. 
لأن الأرض لا تملك إلا أن تعشق ساكنها ..  
و إلا أن يذوب ترابها لوقع خطواته .. 
كن كيفما تكون سيدي .. 
لا عتاب بعد اليوم ..

عريس لقطة










وقف أمام المرآة يمشط شعره بعناية، ملامحه الوسيمة لا تشي بسنوات عمره التي قاربت الثلاثين. تناول الجاكت الأسود الأنيق وألقي نظرة أخيرة علي العنوان الذاهب إليه ثم التقط مفاتيح سيارته وخرج من الحجرة.
جال بنظره في الشقة الخالية وتساءل... هل ستسكنها يوما امرأة !
أغلق الباب خلفه علي الوحدة الساكنة بالداخل وبعينيه نظرة شجن ..
ليتها كانت معه، ها هو الآن معه الشقة والسيارة ومصاريف الشبكة والمهر التي لم يمتلكها منذ سبع سنوات.
منذ سبع سنوات حين كان غض برئ، مفعم بالحب و أحلام الصبا، لم يأبه لكلامها عن رفض أباها و أقنعها أنه سيقنعه. ذهب إليه وحدثه عن الطموحات و العمل الجاد ، عن الحياة التي قد يعيشاها بالكاد في البداية ثم ستزهر رويدا رويدا، فلا يعقل أن نبدأ من حيث انتهي أهالينا !
حدثه عن الشقة المتواضعة و العمل البسيط الذي لا ريب يوما سيكبر، بل واندفع و أخبره أنه يحبها وأنها ست البنات وخيرهن، أنه سيحافظ عليها كعينيه و يحميها بحياته..
كلاكس طويل أفزعه من ذكرياته، كلاكس طويل مزعج أشبه بأثر الرفض الذي تلقاه وقتها.. رفض تام كامل للفكرة من بدايتها، كيف أنه مازال صغير وهو يريد لابنته رجلا يحافظ لها علي نفس مستوي معيشتها ، كيف أن من حقه أن يطمئن عليها وأن يراها سعيدة، هانئة وغير محتاجة لشئ !
ضغط كلاكس حاد لسيارة أمامه منفعلا كأنما القصة حدثت بالأمس ..
وماذا عن حقي أنا أن أتزوج من أحب ؟ وماذا عن حقها هي أن تختار كيف تكون سعيدة ؟ ماذا عنا ... ماذا عنا .. ؟
ثرت و ثارت ، ثم انتهت الزوبعة إلي لا شئ و أخذها أبوها معه إلي الدولة العربية التي يعمل بها .
انقطعت بينهما الاتصالات رويدا رويدا وبعد سنتين سمع أنها تزوجت ..
اغرورقت عيناه بلمعة الذكريات .. أين أنتِ الآن ؟؟
ها أنا.. ها أنا... أملك الشقة الفاخرة و السيارة الجميلة و الدخل الذي يرضاه أبوكِ ..
و لكن ، ذاهب ...
 ذاهب لألقي عروسة أبوها منتظر من هو مثلي ، عريس لقطة .. يملك شقة و سيارة و دخل مريح بعد سنوات الوحدة و الشقاء..
 ليحيا المجتمع و يسقط الحب ..
زفر في يأس،  انتزع نفسه من ذكرياته وهو يحاول أن يستعيد ابتسامة تعينه علي ما هو مقدم عليه، لم تمض نصف ساعة و كان قد وصل أمام العمارة في موعده تماما.
 
أما فوق، في الشقة، كانت العروس المنتظرة جالسة علي سريرها تفرك يديها بعصبية، من أين أتاني عريس الغبرة هذا !
قامت من مكانها ودقت الأرض بغيظ وهي تفكر " لن أتزوج إلا من اختاره قلبي فقط "
تعلم أنها مقدمة علي فترة عصيبة ، سيضغطون عليها و يضغطون و يحاولوا اقناعها بكافة الطرق والوسائل ، سيهددون ويتوعدون .. يا ربي ماذا أفعل الآن!
أخذت تطوف بالحجرة حتي سمعت جرس الباب فهبط قلبها بين قدميها، دقيقة ووجدت أمها تطلب منها الخروج.
خرجت فوجدته أنيقا، وسيما، يبدو أباها مستبشر و أمها فرحة.
يا ويلي ، ماذا سأقول عنه هذا ؟
" لن أقبل يعني لن أقبل "
جلسوا يتحدثون في مواضيع عامة و هي تنطق الكلمة بالكاد إلي أن استأذن العريس أن يجلس معها قليلا، انزعج أبوها بعض الشئ فهو لم يعتد ذلك لكن شجعته أمها بأن أخذت أباها و جلسوا في الصالون المقابل.
حاول أن يفتح حديثا معها و قد لاحظ امساكها عن الحديث.. كان توترها بلغ أقصي درجاته، فانفجرت فيه بصوت هامس لئلا يسمعها أبوها و أمها...
" اسمع ، أنا أحب شخص آخر، أرجوك .. أنت تبدو انسان محترم و لا غبار عليك و لكن أنا لن أتزوج غيره"
تراجع للوراء قليلا متفاجئا من ردة فعلها، ظل صامتا بعض الوقت دون أن يقول شيئا ...
أما هي فقد امتقع وجهها و لم تدر كيف تفوهت بذلك...
ابتسم لها ابتسامة طمأنينة و قال بخفوت...
" لا بأس"
شرد قليلا و لم يستطع إلا أن ينساب مع تساؤلاته مفكرا...
ليت حبيبتي كانت فعلت مثلك ...
دقائق من الصمت قطعها حضور أباها و أمها ...
كلمات مجاملة اعتيادية ... لسان حاضر معهم ..
و قلب مغرق في الذكريات حتي انصرف ...
في طريق عودته .. اتصل بصديقه الذي أحضر له العروسة و أخبره أنهما لم يتفقا كثيرا ...
 كلام من قبيل .. كله نصيب
كان قد وصل إلي بيته بانتهاء المكالمة ...
دخل شقته الخاوية ..
مطرقا إلي الأرض و كأنما يتجاهل سؤال الجدران الباردة...
ماذا لو كانت حبيبتي فعلت مثلها .. 
هز كتفيه في أسي  و غمغم في خفوت ...
يكفيني أني لم أحرم حبيب آخر من حبيبته ...
يكفيني أني حرمت المجتمع من رغبته السادية في تفريق الأحباء ..



أنت لست مجبرا أن تسمعني






هناك نظرية تقول ببساطة ..

أنه عندما أتحدث إليك الآن في هذه اللحظة ..

"انت لست مجبرا أن تسمعني"

بإمكاني أن أملأ الدنيا حديثا و كتابة ، شرحا و كلاما مستفيضا ، بل عويلا و صراخا ..

و بإمكانك بسهولة أن تصم أذنيك عني ، أن تغمض عينيك و تخطف قيلولة صغيرة فيم أنهي كلامي أو تستكمل حديثا هامسا بينما أشرح قصدي ..

مهما كان كلامي مهما، مهما كانت القيم التي أدعو إليها سامية و نبيلة ، بل حتي لو كانت الفكرة التي أريد توصيلها إليك يتوقف عليها مصير البشرية ..
 بيدك دائما أن تختار ألا تسمعني .

إن نبل الغاية و سلامة المقصد لا يغفران للمتحدث أو الكاتب جهله بالطريقة المثلي لجذب من أمامه.

إن المدرس الذي يكتفي بأن يعطي دروسا و واجبات و يأمر تلاميذه أن يملأوا الصفحات ترديدا لما في الدرس عشرات المرات، إنما يعطيهم عذرا أكبر لكي يتهامسوا من وراءه و يتقاذفوا الطائرات الورقية ملئاً للفراغ الذي يتركه في أنفسهم حين يتحدث
 و هو بالتأكيد السبب الرئيسي وراء نسيانهم كل ما جعلهم يحفظونه عشرات المرات بمجرد أن ينهوا الامتحان.

و المحاضر الذي يكتفي بأن يجلس إلي مكتبه و يفتح كتابا بين يديه أو بعض الأوراق ليقرأ منها بصوت رتيب خال من الحياة سطور ميتة يلقيها علي مسامعنا...
يعلم جيداً أن بإمكاننا أن نقرأها وحدنا .. متكئين علي أسرتنا في حجرة جميلة ..
مكيف يعمل علي أقصاه و كوب شاي تفوح منه رائحة النعناع العطرة لهو بالتأكيد مشجع علي الجلوس في البيت أكثر بكثير من أن نجلس أمامه ليقرأ لنا كأطفال الروضة !

مهما كانت الدروس التي يلقيها المدرس مهمة و نافعة و مهما كان العلم الذي يحمله المحاضر قيما، فإن علي كل منهما أن يدرك جيدا أنه يجب أن يكون ما يقوله جذابا بما يكفي لكي يجعلني أستمع إليه و أفضله علي غيره من وسائل المعرفة التي أصبحت في متناول الجميع في العالم الذي نعيشه اليوم.

لا تتكلم عن فشل الطلبة و عدم اصغائهم .. لكن تكلم عن اهمال المحاضر و قلة مجهوده في توصيل المعلومة ..

يجب أن يدرك المعلم، سواء كان مدرس أو محاضر ، أن مهمته اليوم أصبحت أكثر صعوبة و أثقل وطأة من معلم الأمس الذي كان ينفرد بكونه مصدر المعلومة الوحيدة.

فالعيب كل العيب علي من يلقي لا علي من يتلقي...

فمن يلقي يحمل مهمة مقدسة عليه أن يسعي لها بكل جهده و لو اقتضي الأمر أن يتحول بهلوانا أو ساحر إذا كان ذلك سيؤدي لترسيخ الفكرة الناضجة و العلم الحقيقي في أذهان من يلقي عليهم.

إن علي المعلم أن يدرك أننا دائما نملك اختيار ألا نسمع و أن مهمته الأساسية ...

" أن يجعلنا نسمتع لما لديه"