ابنتي








علي ورقة جرائد لطخت بقعات الزيت عليها العنوان المكتوب بالأحمر ..

"وزير الصحة يعلن أن السبب الرئيسي وراء وفاة المصريين هو الأزمات القلبية "

بابتسامة صفراء ساخرة يتأمله و هو يأكل قرص طعمية ضئيل الحجم و المحتوي ..
 - ما هو من الهم اللي بنشوفه .. !

عدة أقراص أخري لازلت باقية ..
معدته التي تئن من جوع البارحة تستحثه أن يلتقمها هنيئا مريئا واحدة وراء الأخري ..
لكن نظرة من عينيه للحجرة التي تكدس فيها أولاده الأربعة تعيد يده الجائعة لمكانها و تلف الورقة علي ما تبقي من فطور أولاده الهزيل..
يعلق بصره للحظات بوجه طفلته الصغيرة النائمة في حضن أمها بدموع جافة علي خديها من أثر بكاء البارحة من شدة مرضها ..
وصفات شعبية بسيطة و بعض المساعدات من الجيران إلي أن هدأت و نامت ..
لكن بلا فائدة .. لابد لها من طبيب و دواء .. و نقود ...

نقود .. 

تنهد في عمق كأنما ذلك هو كل ما يملكه في مواجهة عجزه المحفور علي وجهها ..
سحب بصره بعيدا في حزن ..   التقط جاكته القديم من علي الكرسي الوحيد في الحجرة ..و ارتداه عسي أن يجد بعض الدفء في تلك البرودة القارصة .. لكن بلا فائدة تذكر..
خرج بهدوء من العشة الفقيرة المتوارية في زاوية و الصبح يكاد يلتقط أنفاسه الأولي ...

ظل يمشي و يمشي و يمشي بجسده الاعجف ذا السنوات  الأربعون ..
حزن يرافقه و يسير معه كأنما صديقه منذ خلق ..
هم عشش في غضون عينيه الذابلتين ..
و سؤال كل يوم يطرح نفسه من جديد باستفزاز لا حدود له ..
من أين سيأتي بقوت اليوم ؟؟
من أين سيحضر لهم ما يكفي ليسد به بطونهم الخاوية .. ؟؟
نكس رأسه للأرض في خزي كأنما ذنبه تلك العيشة المعدمة التي يعيشونها ..

و فيما تجره قدماه بحثا عن عمل اليوم اصطدم بصديقه "سيد" الذي تهلل لرؤيته قائلا ..
- ابن حلال والله ، كنت لسه رايحلك ..

بلامبالاة من يعلم أنه لا يوجد اي خبر يستطيع أن يفك اسره من قيود همومه، رد بكلمة واحدة ..
- اشمعني ؟

مد سيد إليه كومة من الجرائد و المجلات و هو يقول ..
- جاتلي شغلانه حلوة في طنطا و لازم أسافرلها حالا و معنديش وقت ابيع دول .. خدهم و حلال عليك المكسب يا عم ..

ابتسامة مريرة علي شفتيه قائلا ..
- ماشي
و أكملها في نفسه .. الحمد لله أحسن من مفيش ..

تناول الجرائد و المجلات بشعور غريب في نفسه أن الجرائد اصبحت تطارده في كل مكان بإلحاح ممل ..
ظل يمشي قليلا حتي وجد ركن خال من البائعين عند أحد الاشارات ..
فرش أمامه الأوراق المتخمة بالعنوايين الحمراء و السوداء ..
أشاح بوجهه عنها كأنما لأخبارها و كُتابها رائحة الفُجر و الرذيلة و القبح المنبعثة من كل سطر في السياسات التي يكتبون عنها ..

مرت فترة ليست بالقليلة إلي أن بدأ الشارع يستعد للنشاط بين الغادين و الرائحين ..

كان قد نال في صغره قسط جيد من التعليم و إن لم يسعفه ذلك في عمل ثابت يدر عليه أي دخل يتعيش منه بعدما صارت البطالة تسكن كل ركن و زاوية في البلد..
و كل ما يفعلونه .. كلام .. كلام .. كلام ...
لا فائدة ..

انتبه لشابان وقفا أمام الجرائد المفروشة أمامه يتجادلان في حدة اجتذبت أنظار الناس و كل منهما يدافع عن وجهة نظره بشراسة حول .. "مين اللي خربها" .. ؟

شتمهما شتيمة "أبيحة" في سره لاعنا من أنجبهما ...
خربها .. !!
من يتحدث عن الخراب لابد أن يكون قد ذاق غيره ..
إنه لا يذكر متي كانت آخر مرة نام فيها مرتاح البال ...
متي كانت آخر مرة لم يشعر فيها بعجزه القاتل يذبح فيه ذبحا أمام احتياجات امرأته و أولاده ..
عن أي خراب يتحدثون و متي رأينا الراحة حتي نميزها عن الخراب .. ؟

 تجاهلهما بكل ما في نفسه من طاقة للصبر ..
لكن ككل شئ في الحياة ..  ما تهرب منه يلحقك ..

التفتا إليه فجأة و كأن كل منهما رأي فيه الدليل الدامغ علي حجته التي يجابه بها الآخر ..
 و انبري أحدهما يصيح في الآخر مشيرا إلي رجل الجرائد ..

- لازم نقول نعم للدستورعشان نبدأ نخطي الخطوة التانية و نبدأ نضمن حقوق الراجل دا إنه يعيش عيشة كويسة و يتعالج و يعلم أولاده

و الآخر يرد بنفس العنف ..
- لا و انت الصادق دا انتوا هتقولوا نعم عشان ترسخوا حكم العسكر و الدولة الأمنية ترجع تاني أسوأ من الأول و الراجل دا مش هيبقى له كرامة في البلد ..

نظر لهما غير مصدق ..

حقا .. !!

ظل محدقا فيهما للحظات ..
أنتم فعلا تصدقون وهم أنكم فكرتم فيّ أو في ملايين غيري في كل ما فعلتم و تفعلون حتي الآن ...

نظرا إليه و هما يلتقطان أنفاسهما منتظرين منه تعليقا ..
لكن رنة تليفونه المحمول العتيق تكسر الصمت اللحظي ..
يرد ..
يسكت لحظات بينما يستمع إلي جاره يخبره أن ابنته في المستشفي ..
- جاي حالا

كلمتان .. كلمتان فقط ..
لم يستطع أن ينطق غيرهما بينما ملامحه تتقطع بسكين العجز و قلة الحيلة ..

ظل الشابان ينظران إليه بنفاذ صبر كأنما ينتظران منه كلمة تحدد مصير الفائز منهما في الجدال ..
يحدق فيهما بعينان حمراوتان تأبي بقايا كرامته أن تترك دموعهما المحتبسة تتدفق ..

يتركهما .. و يمشي ..
دون كلمة واحدة ..
و كل ما كان يفكر فيه ..

هل يوجد دواء دستوري يعيد إلي ابنتي .. ؟






الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي