وقفت في الشرفة و سكون الليل يلف
المكان و القمر قد اكتمل بدراً و أرسل ضوء فضي خلاب انعكس علي ملامح وجهها الرقيقة
القلقة ، و أخذت عيناها الصافيتان تجوبان الشارع ذهاباً و إياباً و خلف صفائهما
ترقُب الخائف و قلق المنتظر ....
تنهيدة حارة من أعماقها خرجت من بين شفتيها و حملت معها بعضاً من أسرار ألم الخوف
و الوحدة و لهيبهما....
انقبضت أصابعها برفق و كأنها تحتضن كفها المتلهف ... المشتاق إلي لمسة يده و ضغطة
أصابعه القوية الرفيقة .
تنهيدة أخري أقوي انتزعت بها نفسها إلي الداخل تاركة مكانها الذي تقف به منذ ساعات
... .
" لن يأتي الليلة "
قالتها في همس خفيض و هي تعلم ذلك علم اليقين ، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من
الانتظار ....
لم تحملها قدماها إلي أبعد من أريكة قريبة من الشرفة ، جلست عليها في وهن و وضعت
يدها علي قلبها و أخذت تمسح عليه في حنان و كأنها تحاول أن تٌسكن ألم الشوق الذي
يئن بين الضلوع و رفعت قدميها عن الأرض و استلقت متكورة علي الأريكة كطفلة صغيرة
تائهة وحدها في عالم كبير .... .
لم تدر كم مر عليها من الوقت و هي علي هذه الحالة ، و لكن خيل إليها أنها سمعت تكة
المفتاح .... لم تفتح عيناها و كأنها تتقي ألم خيبة أملها مما يصوره الخيال ... .
هنيهة ... ثم شعرت بأصابع تتخلل خصلات شعرها في رقة و أنفاس حارة قريبة من وجهها ،
فتحت عينيها ببطء و نظرت من بين أهدابها متطلعة في فضول أقرب إلي فضول الأطفال
....
أشرقت ابتسامته أمام عينيها ، فارتفع حاجبيها في تأثر و بصوت مبحوح من الانفعال
أرادت أن تقول كل كلمات الحب و اللهفة ...
تسارعت الكلمات و تزاحمت الحروف و ذابت .. علي طرف شفتيها فلم يخرج منها سوي
تنهيدة حارة حملت كل ما يعتمل بصدرها من مشاعر ...
" أوحشتني "
همس بها في أذنها برقة ...... لمعت بالدمع عيناها حين مس صوته شغاف قلبها و تسلل
بين حناياها و كأنه قطرات ندي رقيقة تُهدئ و تُلطِف من لهفة و لهيب الاشتياق .
رفع ذراعها برفق و لفه حول عنقه ، ثم ضمها إليه بحنان و رفعها من علي الأريكة
حاملاً إياها علي ذراعيه و هي لازالت غير مصدقة و غير قادرة علي استيعاب ما يحدث
... و آثرت أن تستكين إلي أن ما يحدث هو حلم صاغته لهفتها و أحياه اشتياقها ، و
كأنما خافت أن تستعيد تركيزها فتعود إلي واقع لا وجود له فيه .
و لكن علي الرغم من ذلك لم تستطع أن تمنع يدها التي ارتفعت تتحسس وجهه في حنان و
تطمئن علي كل ثنية من ثنيات ملامحه و كل تفصيلة صغيرة فيه ....
جاوبها هو بابتسامة شعرت فيها بتجعيدات زوايا فمه تحت أصابعها ، و همس أنفاسه علي
باطن كفها و هو يتنفس.... "أحبك " ..
و كأن الكلمة تذوب علي شفتيه كقطعة سكر .. .
ظل واقفاً أمام السرير لحظات و كأنه يضن بها عليه و هو يعلم ألا راحة لها إلا بين
ذراعيه ، ثم أنزلها برفق و قبضتها الصغيرة متشبثة به تأبي عليه الابتعاد ...
فاستلقي بجانبها و احتضنها بقوة و حنان و استرخت هي تماماً علي صدره ...
سكينته و أمان قربه احتوتها .. حنو ضمته .. عطره و رائحة أنفاسه... تسلل النوم
إليها قليلاً قليلاً حتي استولي عليها و غابت عن العالم تماماً.
بعد وقت لا تدري طوله أو قصره .... فتحت عينيها ببطء و أشعة الشمس المتسللة من خلف
الستار أشاعت ضوء خفيف في الحجرة ، نظرت بجانبها فلم تجده .....
تذكرت طيفاً مما حدث و لم تستطع أن تحدد أكان حلماً أو حقيقة ... و لم ترد أن تحدد
أهو حلم أم حقيقة ... أغلقت عينيها علي صورته .. و صدي صوته يتردد في أذنها ...
ضمت نفسها إليها لتحتفظ بدفء مشاعرها حبيسة صدرها فلا تهرب .... .
ذهب الألم و اختفي ... هو ليس بعيداً عنها .. ساكن في كل ذرة من كيانها .. متسلل
مع أنفاسها ... متناغم مع خفقات قلبها ... هو ليس بعيداً عنها .. أبداً.