الفصل الحادي عشر: تفتحت الزهرة




و فجأة تبينت الجسد المحمول علي الأعناق حينما دخلوا ... تراجعت للوراء و اتسعت حدقتاها من الرعب ..   
" ياسين " 
 وضعت يدها علي فمها و كأنها تمنع نفسها من الصراخ .. رأتهم يحملونه للدور العلوي و قد تسمرت مكانها.....
انتزعت نفسها من الجمود و الذهول اللذان سيطرا عليها و جرت وراء جدها و هي تقول لاهثة الأنفاس :
جدي .. ياسين .. جدي ..
قال لها في سرعة و هو يكمل صعود السلم و التوتر قد ملأ صوته :
لا أدري ، لا أدري ، لقد وقع مني فجأة و نحن في الأرض
أسرعت علي السلم وراءه و هي تشعر أن قلبها يكاد يثب من صدرها من شدة الخفقان و الفزع ، دخل جدها الحجرة و أغلق الباب وراءه ، ثم رأت رجلا يصعد مسرعا و في يده حقيبة خمنت أنه طبيب .
كان المنزل قد ازدحم برجال كثيرين ، تراجعت للوراء خطوات حتي اختبأت خلف ستارة صغيرة في الرواق .. أسندت ظهرها للحائط و انهارت إلي الأرض باكية و هي تردد بصوت خافت متقطع الأنفاس :
ياسين .. ياسين ..
ظلت علي وضعها هذا لفترة لا تعلم مداها و هي تشعر أن اللحظة تمضي كسنة  و قلبها يكاد يتوقف عن الخفقان ، ثم سمعت صوت باب الحجرة يُفتح فأسرعت إلي جدها الذي كان يقف مع الطبيب الذي قال :
لا تقلق ، يبدو أنه أصيب بنزلة برد و أهمل في الاعتناء بنفسه و مع التعب و الإرهاق ارتفعت درجة حرارته فأغشي عليه ...
لقد أعطيته خافضا للحرارة و مسكن لكي يظل نائم ، و لكن لابد أن يسهر بجانبه أحد ليرعاه و يضع له كمادات
ثم أردف مكملا :
أنا استطيع أن أكلم ممرضة لتأتي ...
أسرعت نور تقول :
لا ، أنا سأسهر بجانبه
نظر إليها الجد و كأنه لم يكن منتبه لوجودها ، سكت قليلا ثم قال :
لا بأس .. ادخلي إليه و أنا سأوصل الطبيب
 فتحت الباب و دخلت برفق ثم أغلقته وراءها و قد أظلمت الحجرة إلا من نور خافت قادم من اباجورة قائمة قرب سريره ، نظرت إلي وجهه الشاحب في حنان و قد اغرورقت عيناها بالدموع ثم سمعت صوت باب الحجرة يُفتح ، التفتت وراءها فوجدته جدها الذي ظل صامتا لحظات ثم قال :
انت متأكدة أنك تستطيعين السهر بجانبه ؟ يمكنني استدعاء الممرضة ..
ردت في هدوء حزين :
بل أستطيع يا جدي
زفر الجد في عمق و كأنه يحاول أن يتخلص من توتره ثم اقترب من سرير حفيده و قبّله علي جبينه ، و قبل أن يخرج ربّت علي كتفها و قال في خفوت :
إن أردت شيئا ، أنا في حجرتي
هزت رأسها إيجابا و خرج الجد من الحجرة ، ظلت واقفة مكانها لحظات ثم اقتربت من الاناء و أخذت منه قطعة قماش ، عصرتها ثم وضعتها علي جبينه . شعرت بقشعريرة تسري في جسده من برودتها فبدا في عينيها حزن أليم و انحنت علي ركبيتها بجانب سريره و تناولت يده بين راحتيها ، سقطت دمعة من عينيها علي أطراف أصابعه .. شعرت بقلبها يكاد ينفطر من شدة الحزن .. شعرت به عزيز عزيز كأرفع ما يمكن أن يحتل بشر من مكانة في نفسها .. قريب كأشد ما يكون القرب .. ليتك ما تري الألم و لا التعب أبدا أبدا ... ليتني كنت مكانك ، أحست أن يده المستقرة في راحتيها قطعة منها .. انتبهت لنفسها ، فأعادت يده بجانبه علي السرير في رفق ثم تناولت قطعة قماش أخري و عصرتها و وضعتها علي جبينه بدلا من الأولي ، ثم جلست علي كرسي بجانب سريره و أخذت تكرر هذه العملية مرات و مرات و عيناها معلقتان به و كل حواسها منصرفة إليه .. عيناها تراقبان وجهه الشاحب و صدره يعلو و يهبط ببطء و أذناها لا تسمعان إلا همس أنفاسه.. .
تحرك حركة خفيفة فأفاقها من تأملاتها و مالت بلهفة للأمام ، ثم انتبهت لنفسها فجأة .. ما بالها ! ما كل هذه اللهفة و كل هذا الحزن و الألم ..! الأمر لا يستدعي كل ذلك ، برد بسيط و سيُشفي إن شاء الله ..
ابن عمتي و طبيعي أن أقلق عليه ، خاصة مع كل الفزع و التوتر الذي حدث .."
همست نفسها في خبث ... " انت تحبينه "
تراجعت للخلف حتي كادت تسقط من علي الكرسي ، تمالكت نفسها بصعوبة " ما هذا التخريف ؟ بالطبع لا ! ياسين بالنسبة لي مجرد أخ ..! "
في سخرية أكبر حدثتها نفسها " علي من تكذبين و ممن تختبئين و أنا نفسك ! " ... " أنت تحبينه "
لا .. لا .. لا يمكن .. !" زفرت في حيرة و قد بدأت صلابة موقفها تتفت و قالت في خفوت .. " لا أدري .. "
همست نفسها مجددا في إصرار " بل تدرين .. و تشعرين منذ زمن .. أم كيف تفسرين نظراتك إليه و اصغائك لحديثه بكل ذلك الاهتمام ... كيف تفسرين اهتمامك المبالغ فيه و ضيقك في الصباح حينما تحدث إلي دينا .. و لهفتك الآن .. أنت تحبينه ... "
لا ، لا ، لن أحيا في الوهم مجددا "
هنا تدخل قلبها في خفوت " ليس وهما " التفتت لتلك الهمسة التي سرت في كيانها و تمتمت في حدة ..
و ما أدراك ! " .. " أنا أدري .. أنا أشعر .. ليس وهما "
انتزعها من أفكارها سعال خفيف من ياسين فالتفتت إليه بسرعة و لهفة دون أن تدري ، فرددت نفسها في خبث " أرأيت .. "
زفرت في عمق مستسلمة ، ثم قامت من مكانها و بدلت قطعة القماش و عادت إلي مقعدها و قد أصمت أذنيها عما يدور برأسها حتي لا تجن من كثرة الأخذ و الرد و التفكير .. و ظلت تكرر العملية المرة تلو المرة حتي أغفت في مقعدها مع بزوغ الفجر من شدة التعب و إرهاق التفكير .
 قرابة التاسعة صباحا ، استيقظ ياسين .. فتح عينيه ببطء و نظر حوله في وهن محاولا أن يستوعب ما الذي جاء به إلي سريره .. حاول أن يتذكر و لكن آخر ما يذكره أنه كان يقف مع جده بالأرض و شعر بدوار يكتنفه ثم أظلمت الدنيا أمام عينيه .. رفع يده ببطء و وضعها علي جبهته فوجد قطعة قماش ، أزاحها و وضعها جانبا ثم أخذ يعتدل في السرير ببطء و هو يشعر أن كل عظمة في جسده تئن من الألم و وهن غريب سيطر عليه . اعتدل و نظر حوله ، فوجد نور نائمة علي المقعد و قد تكورت كطفلة صغيرة من البرد ، نظر إليها في حنان و قد بدأ يدرك ما حدث .. لا ريب أنها سهرت بجانبه طوال الليل ..
يا حبيبتي .. "
تمتمها في خفوت حار ، صادق .. ، نهض من السرير و فكر أن يأخذ أغطية سريره ليغطيها بها و لكنه خاف أن ينتقل إليها المرض ، فمشي إلي الدولاب بخطوات بطيئة و فتحه و تناول بطانية من الرف العلوي ثم تحرك بهدوء لئلا تستيقظ و دثرها بها .
أراد أن يتحرك و لكن عضلاته لم تستجب و كأنما غشي عقله سحابة بيضاء ... حواسه لم تكن ملكه ، عيناه معلقتان بوجهها الملائكي الجميل و أنفاسها العطرة تطوف بوجهه القريب منها ... شعر أنه يريد أن يحملها علي ذراعيه و يضمها إلي صدره كطفلة صغيرة ثم يضعها في سريرها و يلف الغطاء حولها لئلا تتسرب نسمات البرد إليها ثم يساوي خصلات شعرها علي الوسادة و يظل بجانبها يرقبها و يحرسها ....
و مع كل فكرة تطوف بخاطره تتسع ابتسامته و تتدفق المشاعر قوية جارفة في كامل كيانه  ، تحركت حركة صغيرة فانتبه أن وقفته طالت فتحرك من مكانه و قرر أن يذهب ليأخذ حمام و يتركها لتنام .
بعد نصف ساعة عاد إلي الحجرة ، فانتبهت نور علي صوت الباب و فتحت عينيها ببطء .. ظلت نظرتها ساهمة لحظات ثم رأته أمامها فانتبهت و بدأت تدرك ، حاولت أن تعتدل فكاد الغطاء يسقط فابتسمت في خجل و هي تلحظ نظرته لها ثم قالت بلهجة حنون تعكس أثر ما طاف بنفسها البارحة :
ما الذي جعلك تغادر سريرك ؟
ضحك و قال و هو يغمز بعينه :
و أنتِ ما الذي جعلك تغادرين سريرك ؟
ابتسمت ثم أشارت إليه بيدها محذرة :
أنا لا أمزح ، من فضلك لا تغادر سريرك مجددا و كل ما تريده اطلبه مني ..
ثم أردفت مكملة بابتسامة جميلة و قد قامت من مكانها :
سأذهب الآن و سآتي إليك بعد قليل
أومأ برأسه مبتسما و ظل يتابعها بعينيه حتي خرجت من الحجرة .
بعد قليل عادت إليه و هي تحمل صينية عليها فطور ، فقال ممازحا إياها :
ألابد أن أمرض لأحظي بكل هذا التدليل ؟
فضحكت قائلة :
لا أرجوك ، لك ما تريد من التدليل و يكفي ما أصابنا من فزع أمس
نظر إليها في تساؤل فأخذت تحكي له ما حدث و ساد الصمت قليلا بعدما انتهت ، ثم قال في خبث :
و أنتِ ماذا فعلت حين رأيتيني محمولا علي الأعناق ؟
ضحكت و قالت :
قلت الحمد لله استرحنا من الثرثرة
ضحك و نظر إليها من طرف خفي و هو يتناول فطوره ، أخذت هي تتشاغل بتنسيق زهور موضوعة علي طاولة في جانب الحجرة و قد أعطته ظهرها ، ثم قالت فجأة :
شعرت علي نحو غريب أني ثكلي و يتيمة في ذات الوقت
ساد صمت تام و تصاعدت حمرة الخجل لوجنتيها و هي لا تدري كيف استطاعت قول ذلك ، أخذت توبخ نفسها و هي تشعر أنها تكاد تذوب من شدة الخجل و دقات قلبها تقرع مسامعها ... شعرت بنظراته تكاد تخترق ظهرها و ياسين قد ارتفع حاجبيه تأثرا و أخذ ينظر إليها نظرة حارة ملتهبة تنطق بالعشق و اللهفة عليها و عقله يعمل محاولا فهم ما قصدته بما قالت .
فتح فمه ليقول شيئا و لكن صوت طرق علي الباب و دخول الجد عليهما أنقذها من سؤاله الذي لم تعلم فحواه و لا إجابته إن وُجد .. تنفست الصعداء و قالت في سرعة دون أن تنظر إليه :
سأذهب لأعد لكما كوبان من الشاي
تعجب الجد من تصرفها و لكن لم يبد ذلك علي وجهه و جلس علي كرسي بجانب ياسين و كأنه لم يلحظ شيئا و أخذ يسأله عن صحته و يطمأن عليه ، ثم جاءت نور بالشاي فقال الجد حين رآها :
عندي لكما خبر جميل
نظرا إليه في تساؤل فأكمل قائلا :
عمر كلمني منذ قليل و أخبري أنه سيأتي ليستقر في القاهرة و يعمل معنا في الشركة
قالت نور في فرحة :
فعلا ، هذا خبر رائع
ابتسم ياسين ابتسامة صغيرة و قد ضايقه علي الرغم منه فرحة نور بالخبر .
ظل الجد جالسا قليلا و أخبر ياسين أن باسم سأل عليه و أنه سيكلمه اليوم ليطمئن عليه و أوصاه ألا يخبر والديه بما حدث لئلا يقلقوا ، فوافقه ياسين علي ذلك .
بعد قليل انصرف الجد و قامت نور معه متعللة بترك ياسين ليرتاح قليلا ، فهي و إن لم يكن هناك ما هو أحب إليها من الجلوس إليه و عدم تركه لحظة واحدة و لكنها خافت أن يذكر ما قالت و هي ليس لديها رد .
تركته و عادت إلي حجرتها و استلقت علي السرير و هي تفكر في تلك المشاعر الجديدة التي اجتاحت كيانها و حطمت جميع السدود و استولت علي نفسها و قلبها و عقلها و كامل تفكيرها .. و ظلت تفكر حتي راحت في سبات عميق و أحلامها كلها تدور حول ياسين .
أما ياسين فخرجوا من عنده و أطفئوا النور و تركوه لينام ، و لكنه شعر أن نور قلبه و عينيه انطفأ حين ذهبت تلك التي نورها الصافي النقي كافي ليملأ كيانه بالدفء ... طوال الوقت كان يشعر بحب نور و عشقها يسري في كيانه و لكن دائما كشئ غامض يستمتع به و لا يستطيع التخلي عنه دون أمل في تحققه يوما ، و لكن الآن بعدما شعر بها قربه كأشد ما يكون القرب ، لا .. الأمر واضح وضوح غير طبيعي .. لا ، لن يستطيع أن يحيا لحظة واحدة إلا و هي بهذا القرب .. لا يحتمل فكرة أن تكون بهذا القرب من رجل آخر .. رجل آخر يكون من حقه أن ينظر إليها و يتأمل ملامحها الجميلة .. يكون له أن يعبث بخصلات شعرها الرائعة ..  يستمتع بضحكتها الرقيقة و يلتقط أنفاسها العطرة .. يكون له أن يضمها و تكون منه كأشد ما يكون القرب .. للأبد .. لا فليقتل نفسه الآن أفضل من أن يحدث ذلك يوما ... .
مرر يده علي وجهه و كأنه يمحو الصورة من أمام عينيه ، ما باله لا يحتمل الخيال ، فكيف سيحتمل الواقع .. إلي متي سيظل الحب صامت .. ساكن .. مختبئ بين الضلوع ، إلي متي سيظل مُعذب بقسمات وجهه الهادئة بينما في صدره مشاعر متأججة و حرارة شوق لا تنطفئ .. لابد أن يخبرها و ليكن ما يكن .. لابد أن يخبرها أنه لم يعرف الحياة إلا من يوم عرفها و أحبها ..لابد أن يخبرها أنها بهجة الحياة و فرحتها .. أنها رائعة كألوان فراشات الربيع .... نقية كالزهور البيضاء الرقيقة ... أن وقع كلماتها في نفسه كوقع حبات مطر صغيرة ترطب لهفته لها و تشيع رائحة عطرة متفائلة كتلك التي يشيعها المطر في نفوسنا ثم تترك قوس قزح جميل حين تنهي كلماتها بضحكة رائقة ... لابد أن يخبرها أن لمسة يدها تفعل به الأعاجيب .. يتفتت من وقعها الناعم الدافئ .. يذوب .. يود لو تمسك بها قليلا و لكن يخاف إن شدد بسيطا عليها أن يؤلمها من فرط حنوها و رقتها .. ليتها تعلم لهفته عليها و مدي اشتياقه لها ...
أخذ نفسا عميقا محاولا تهدئة ثائر مشاعره حتي يستطيع التفكير بطريقة صحيحة ، و أخذ يقلب في ذهنه جميع الطرق الذي يمكن أن يخبرها بها .. ثم زفر في يأس ، ما بال كل الطرق تبدو سخيفة و ركيكة .. ما بال الكلمات تاهت و اختفت و ذابت .. كل الكلمات تبدو صغيرة صغيرة بجانب عظم شعوره نحوها ، كيف تستطيع الكلمات أن تصف لهفة عينيه حين يراها أو إرهاف أذنه حين يسمع صوتها أو اشتداد خفقان قلبه لقربها ، كيف تستطيع الكلمات أن تصف شعورا بهذا العمق و القوة و السمو و الصفاء .. ليت قلبه يستطيع التحدث ، إذن لأخبرتها خفقاته و روت لها حكاية كل خفقة ناجت طيفها ..
انتبه من خواطره علي آذان يتردد في الأنحاء ، فأخذ نفسا عميقا مجددا ثم زفره ببطء  محاولا السيطرة علي ارتجافة أعصابه و رعشة يده . قام من مكانه في وهن و قد زاد عناء التفكير من وطأة المرض عليه ، مشي ببطء و ذهب ليتوضأ ثم عاد إلي حجرته و اتجه ناحية القبلة و شرع في الصلاة .
بعد أن انتهي ، ظل جالسا في سكون مدة من الوقت مطرقا في تفكير و متمتما بهمسات لا تُسمع ثم رفع يديه إلي السماء و قال بحرارة :
يا رب ، إن كان في هذا الأمر خير فاقدره لي و يسره لي ثم بارك لي فيه ..
أراد أن يكمل بقية الدعاء فيدعو الله بأن يكفيه شر هذا الأمر إن كان فيه شر ، فلم يستطع لسانه أن ينطقها فقام من مكانه و هو يتمتم في خفوت :
ليقضي الله أمرا كان مفعولا
ثم دخل سريره و اندس تحت أغطية الفراش ، و من شدة تعبه راح في سبات عميق .
ظل نائما لفترة طويلة و من آن لآخر كانت نور تدخل الحجرة ببطء لتطمأن عليه ثم تخرج بهدوء. استيقظ هو قرابة منتصف الليل و قد غرقت الحجرة في ظلمة دامسة ، فمد يده بجانبه بحثا عن تليفونه ليعرف الساعة و شعر أنه لا يستطيع حتي أن يفتح عينيه من ثقل جفنيه لوطأة الحرارة عليه ، و بصعوبة تمكن من معرفة الساعة فقرر أن يقوم من مكانه ليغسل وجهه و يحاول أن يفيق قليلا . سار بخطوات واهنة حتي باب الحجرة و لم يكد يفتحه حتي وجد نور علي بعد خطوات قليلة منه فابتسم و ابتسمت و قالت :
كنت لتوي آتية لأطمأن عليك
ابتسم ابتسامة باهتة من التعب و قال بصوت ضعيف :
لا تقلقي ، أنا بخير
و لم يكد يتحرك خطوتان حتي شعر بدوار يكتنفه فاستند إلي الحائط بيده و أشرعت إليه نور في قلق و تحسست جبهته ثم قالت راجية :
ياسين ، لابد أن تعود إلي سريرك .. أرجوك ، حرارتك مرتفعة ..
لم يستطع أن يجادل أو يناقش و عاد إلي سريره و هي تسنده بيدها ، ثم دثرته بالغطاء جيدا و هي تقول في حنان:
سأعود إليك بعد لحظات
و ذهبت ثم عادت بإناء مملوء بالماء و قطع الثلج ، وضعته بجانبه و تناولت منه قطعة قماش عصرتها ثم وضعتها علي جبينه ، تمتم بشئ في خفوت فاقتربت بأذنها من فمه لتسمع ما يقول ، فهمس لها قائلا :
ليت المرض لا يفارقني لتظلي دوما بجانبي
ارتفع حاجباها في تأثر و قالت بلهفة :
لا قدر الله ذلك
سكتت لحظات ثم أكملت بلهجة حنون و ابتسامة حلوة :
تعافي أنت و سأظل بجانبك حتي تملني
ابتسم في وهن و حاول أن يتكلم ، فوضعت نور اصبعها علي فمه برفق و قالت بلهجة راجية :
أرجوك ، أنت متعب
ظلت بجانبه تمّرضه طوال الليل و مع قرب الفجر كانت حرارته استقرت و عادت إلي طبيعتها ، فتنهدت في ارتياح و فكرت أن تذهب لتتركه ينام و لكنها لم تستطع الحراك ... ظلت واقفة بجانب سريره تتأمله في صمت و عيناها لا تفارقانه ، ثم انحنت علي ركبتيها و قد مست أصابعها يده و همست في خفوت حار :
أمّتني و أحييتني في كل لحظة ألف مرة
و فجأة فتح عينيه ببطء و نظر إليها فاحمر وجهها من شدة الخجل ، شعرت بنفسها تذوب و بحرارة رهيبة تنبعث من وجنتيها و هي لا تدري مهربا و لا مفر .. أرادت أن تقوم و لكن يده مست أطراف أناملها و أمسكتها برفق .. رفعهم إلي شفتيه و مسهم مسا خفيفا .. حارا .. صادقا .. بأنفاس متلهفة .. ملتهبة طافت بباطن كفها ، ثم أنزل يدها و وضعها علي صدره فصارت تشعر بنبضات قلبه قوية ، متسارعة ثم قال بحنان جارف و حرارة لا مثيل لها :
أتشعرين بقلبي النابض تحت يدك .. هلا تستمعين لخفقاته .. اصغي جيدا علها تروي لكي ما أخفيت بين ضلوعي و خبأته زمنا
سكت لحظة خيل إليها فيها أن العالم توقف و أنها لا تسمع سوي دقات قلبها و لا تشعر سوي بدقات قلبه ، ثم قال :
أتحسين بتلك الرجفة التي أصابته من ملمس أناملك ، أتشعرين بتلك اللهفة العارمة المتدفقة في كل خلية من خلاياه  لقربك منه ...
هذا القلب لم ينبض يوما إلا من أجلك و لم يحيا إلا بحبك ... لم يتنفس سوي عطر أنفاسك و لا يتمني من الدنيا شيئا مطلقا سوي أن تدوم هذه اللحظة و تخلد لتظلي قربه دائما و تظل أناملك الرقيقة تلمسه .... لا يتمني سوي أن تظلي قربه دائما ..
شعرت بحرارة مشاعرها تكاد تصهرها و لا هي تستطيع أن تنظر إليه من شدة خجلها و لا هي تستطيع أن تبعد عينيها عنه من شدة حبها ... كل العالم اختفي .. ذاب .. تبخر .. و لم يبق إلا دفء عينيه الواسعتين الجميلتين ، و همس صوته الرقيق  .. لم يبق إلا حنو لمسته علي يدها و دقات قلبه المتلهفة تحت أصابعها ... ، ثم قال بصوت مبحوح من الانفعال :
هل تجيبين طلبه و تحققي أمنيته ؟
مضت لحظات بدت طويلة .. طويلة .. طويلة كأنها سنوات عديدة ، ثم أومأت برأسها في حياء و قد أطرقت ببصرها إلي الأرض ... شعرت بقلبها يذوب بين ضلوعها من شدة الانفعال و فورة المشاعر الثائرة بنفسها .. .
فمد يده الأخري و رفع وجهها إليه و أخذ يتأملها قليلا و عينيه تائهتان في صفاء عينيها ... و عينيها مستكينتان في حضن عينيه .. و الزمن توقف حولهما .. .
ظلا هكذا لحظات ثم انتبهت لخيوط الضوء المتسللة من وراء النافذة المقفولة معلنة بدء صباح جديد ، فارتبكت و كأنها كانت غائبة عن الوعي في نظراته الحنونة المتلهفة و أفاقت فجأة ، سحبت يدها من يده و قامت من مكانها فقال راجيا بصوت واهن :
نور ، أرجوكي أمكثي بجانبي قليلا
فابتسمت ابتسامة حانية ثم قالت في خفوت مغلف بالحياء :
سأمكث العمر كله بجانبك و لكني سأتركك الآن لتستريح ...
 تصبح علي خير
ابتسم لابتسامتها و فتنة حمرة الحياء بوجنتيها ، و رد قائلا :
و انت من أهل الخير يا نور حياتي
أسبلت عينيها في خفر مبتسمة ، ثم انصرفت .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي