الفصل الثامن: البلد





في صباح اليوم التالي كانت السيارة تنطلق بهم يقودها باسم بجانبه الجد  ، و في الخلف نور و ياسين اللذان أشاعا جوا من المرح طوال الطريق انعكس في ابتسامة واسعة شكلت ملامح الجد من اثر ضحكات حفيدته التي طال اشتياقه لسماع ضحكتها و الاحساس بفرحتها ، بينما ظل باسم صامتا حتي وصلوا .

 صعد كل منهم إلي غرفته ليستريح من عناء السفر بينما ذهب هو لغرفة المكتب ، و حين فتح بابها وجد       " أمين "  داخلها ، فلاح قصير القامة ، ذا عينان صغيرتان يشع منهما خبث يختبئ خلف ابتسامته الواسعة و ترحيبه الحار بباسم .

كان أمين يمثل الساعد الأيمن لباسم في البلد ، يشرف علي الأرض و الفلاحين العاملين بها ، ينقل له كل ما يدور من أخبار ، صغيرها و كبيرها ، و يتولي تنفيذ كل ما يُعهد إليه من مهام سواء كان يعلم بها الجد أوخُفيت عنه .

جاوب باسم ترحيب أمين بابتسامة باردة ، فقد كان متعكر المزاج من مصاحبة نور و ياسين لهم ، ثم بدأ أمين كعادته في سرد كل ما في جعبته من أخبار و باسم نصف مستمع حتي قال أمين في تردد :

- لكن يا باشا هناك أخبار ليست جيدة

انتبه باسم مشيرا  له أن يكمل ، فقال :

- هناك تاجر جديد في السوق و كان يريد أن يشتري محصول البرتقال هذا العام و هو عارض أعلي سعر حتي الآن.. و لكن ... لكنه مصر علي الاتفاق مع الحاج مباشرة حين علم بنزوله

قطب باسم حاجبيه و هو يفكر أنه كان يعول كثيرا علي بيعة البرتقال هذا العام ، لن يجعل تاجر غشيم يفسد له خططه ، ثم قال :

- لا ، أخبره أني أنا من أتولي جميع أمور الأرض و أنه إذا أراد الاتفاق فسيكون ذلك معي

ثم أكمل محذرا :

- و بالطبع لن أنبه عليك ، ألا تجعل الأمر يصل إلي علم الحاج

فرد أمين بابتسامة متملقة :

- طبعا ، طبعا .. أنت تعرفني يا باشا ، لست بحاجة لتنبه عليّ

ظل باسم صامت قليلا ، ثم قال :

- دعه يقابلني غدا صباحا في الأرض

.... إنه لا يريد أن يترك أي شئ للصدفة ... فأومأ أمين برأسه قائلا :

- تحت أمرك يا باشا

ثم قام باسم من مكانه خارجا من الحجرة ، فعلم أمين أن تلك إشارة الانصراف له ، فانصرف  ....

 و قبل أن يصعد باسم إلي حجرته نادي علي سعدية و أخبرها ألا يوقظوه علي الغداء لأنه يريد أن ينام ،

صعد السلم بخطوات ثابتة و قد بدا عليه الضيق ....

 ألا يكفيه أن نور جاءت إلي البلد بعد أن كانت قررت عدم الذهاب و خفيف الدم ياسين هذا الذي ظل يحدثها طوال الطريق ، حتي يجد أيضاً خبراً سخيفا في انتظاره ...

دخل حجرته ، و أخذ يبدل ملابسه بتثاقل ، ثم استلقي علي السرير في تعب و هو يفكر ... لقد أصبحت كل الأوضاع لا تطاق بالنسبة له ، لم يعد يحتمل اضطراره للاختلاط بهم طول الوقت ، و اضطراره لاستشارة جده في كل كبيرة و صغيرة ...

لقد استقر تماما و اتخذ قراره ، سوف يقوم بانشاء شركة تحمل اسمه هو ، لو أراد جده له أن يستمر في إدارة هذه الشركة بالرغم من ذلك ، سوف يفكر في الأمر وقتها حسب ما ستسمح به الظروف  ...

 و لكن .... إذا لم يستطع الحصول علي نصيبه الخاص من بيعة البرتقال كما يأمل ، فذلك يعني تأجيل مشروعه لفترة ليست بالقصيرة ، و هو لن يسمح بذلك ، لقد كد كثيرا من أجل هذا الأمر و هو لم يعد يستطيع الاستمرار أكثر من ذلك ...

سيقابل هذا التاجر بنفسه غدا ، إذا تبين أنه يعرض بالفعل أحسن سعر ، سوف يُتم معه الأمر ... أما غير ذلك ، فسيرفض و يُخبر جده بالأمر بطريقته حتي يقطع علي ذلك الرجل أي طريق للوصول لجده .

تقلب في السرير و هو يشعر بالتعب في كل أعضائه ،  حاول أن يتجاهل كل الأفكار السيئة و يركز في فكرة واحدة سعيدة ، أنه سيغادر غدا في المساء ... و ظل هكذا تتنازعه الأفكار حتي راح في سبات عميق .

ظل جميع أهل البيت نائمون لفترة طويلة و كانت نور أول من استيقظ  منهم قبيل المغرب بقليل ، قامت من سريرها في كسل و اتجهت ناحية النافذة المغلقة و فتحتها علي مصراعيها  ، فتوهجت الغرفة بلون برتقالي خفيف من أثر أشعة الشمس التي أوشكت علي الرحيل ، عبثت نسمات الهواء بشعرها المنساب في خفة ...

فأخذت نفسا عميقا ملأت به صدرها ثم أخرجته ببطء و كأنها تغسل نفسها من كل ما قد علق بها من حزن و  هم .... ، أخذت تراقب الطيور التي تدور في السماء و كأنها تنادي بعضها البعض حتي انتظمت في خط رفيع بدا كأن النسمات تلاعبه يمنة و يسرة إلي أن اختفي عن ناظريها ، فابتسمت مستمتعة بالجو الجميل و المنظر الرائع لاتصال زرقة السماء بخضرة المزارع الممتدة أمامها حتي غابت الشمس و بدأ الضوء يخفت قليلا قليلا مذعنا لدخول ظلمة الليل .

 أفاقت من تأملاتها علي صوت حركة في البيت فانتبهت لتأخر الوقت فذهبت لتغتسل و تبدل ثيابها .

 بعد قليل ،  نزلت للأسفل فلمحت فاطمة تروح و تجئ في الصالة ، فنادتها قائلة بابتسامة حلوة :

- ماذا تفعلون يا فاطمة ؟

- نعد الطعام أنا و سعدية ، فالحاج استيقظ منذ قليل

فكرت نور لثانية ، ثم قالت فجأة و هي تسحب فاطمة من يدها :

- هيا سأساعدكم

وقفت فاطمة في مكانها و قالت في دهشة :

- تساعدينا ؟؟!

ضحكت نور من تعبيرات وجهها و ردت :

- و ما يدهشك في ذلك ؟

لم ترد فاطمة ، فابتسمت نور وجذبتها تجاه المطبخ قائلة :

- هيا ورائي

وقفت نور في المطبخ تقطع الخضار و تصنع السلطة ، و إن شعرت أن سعدية و فاطمة تستعجبان وجودها معهما و تنظران لبعضهما من آن لآخر دون أن تتكلما ...

ابتسمت في نفسها و قررت أن تفتح هي معهما حوارا لتذيب هذه الثلوج بينها و بينهم ، فقالت لسعدية مبتسمة :

- انت متجوزة يا سعدية ؟

ردت في تردد :

- نعم ....

فقالت نور تستحثها علي الكلام :

- لديك أولاد ؟

- عندي بنتان و ولد

فأخذت نور تسألها عن أسمائهم و أعمارهم و أحوالهم ، و تشعب الحوار بينهم و بدأت فاطمة تشترك في الحديث ، فساد جو مرح لطيف في المطبخ و قد سعدت نور أنها استطاعت أن تجعلهم يتحدثون معها ببساطة و دون تكلف ، ثم سألت فاطمة :

- و أنت يا فاطمة ، تبدين صغيرة و لم تتزوجي بعد ؟

هزت فاطمة رأسها إيجابا و ابتسمت ابتسامة حزينة ، لم تدر نور سر انزعاجها و ظهر التساؤل في عينيها ، فقالت سعدية :

- هي كانت .. مخطوبة و فسخت

فقالت نور :

- هذا أمر عادي ، لكن لم يا فاطمة ؟

فاندفعت فاطمة قائلة و قد عقدت حاجبيها في غيظ :

- كان حمار

حاولت نور أن تكتم ضحكتها أمام وجه فاطمة الجاد ، لكنها لم تستطع .. إجابتها غير المتوقعة تماما و تعابير وجهها جعلت نور تستغرق في الضحك حتي أضحكت سعدية و فاطمة ... و بعد أن التقطت أنفاسها ، قالت لفاطمة و هي تغمز بعينها :

- لم كان حمار إذن ؟

سكتت فاطمة قليلا ، ثم قالت :

- كان يريد خادمة ، تطبخ و تكنس و تغسل ، ترعي البهائم و تساعده في الغيط ... و أنا لا أريد ذلك

فعلقت سعدية و هي تضحك :

- تريد أن تتزوج باشا ، و يجئ لها بخادمة تطبخ و تكنس و تغسل و ...

قاطعتها فاطمة قائلة :

- أنا لا أريد ذلك ، ... كل ما أريده ألا أتزوج فلاح يعاملني كخادمة

سكتت ...  ففتحت نور فمها لترد و لكنها عادت تكمل :

- أنا تعبت من أعمال الفلاحة و البهائم و الأرض ... أنا أريد أن أسكن في المدينة و أتزوج رجل يعاملني كزوجة له يشاركها أفراحه و أحزانه ، و عندئذ سأطبخ و أكنس و أغسل و سأكون أكثر من خادمة له طالما هو لا يعتبرني كذلك

تأثرت نور بكلماتها التي شعرت بها منطلقة من صميم قلبها ، فربتت عليها في حنان و قالت بابتسامة جميلة :

- سهلة يا فاطمة ، إن شاء الله ربنا يرزقك ما تتمنينه

فردت فاطمة في سخرية و ضيق :

- سهلة ! بالعكس ، فتاة فقيرة ، جاهلة ، من قرية صغيرة ... من أين لها أن تجد فرصة للزواج إلا من فلاح !

شخص كهذا لا ريب سيبحث عن فتاة علي الأقل متعلمة ، و أنا لا أعرف حتي كيف أكتب اسمي ....

طرأت لنور فكرة مفاجئة ، فقالت :

- ما رأيك أعلمك القراءة و الكتابة يا فاطمة ؟

لمعت عينا فاطمة بالفرح و قالت في سعادة ، غير مصدقة :

- أتتكلمين جد !!

ردت نور بسرعة :

- طبعاً

أخذت فاطمة تحتضنها ، فقالت نور في خجل :

- هذا أمر بسيط ...

ظلت فاطمة تدعو لها من كل قلبها ، و ابتسمت سعدية ابتسامة واسعة و هي ترنو إلي نور في حنان بعينين ملئهما الامتنان ، ثم سمعوا صوت الجد ينادي علي فاطمة .. فأسرعوا بإنهاء الطعام .

اندهش الجد عندما رأي نور تخرج من المطبخ حاملة أطباق الطعام ، لم يلبث أن ابتسم حين وجدها تضحك مداعبة فاطمة و تنتقل في المكان بمرح .

لم يمض قليل حتي نزل ياسين و جلسوا جميعا علي السفرة ، أخذوا يتحدثون أثناء تناول الطعام حتي انتهوا.

 ثم قام الجد و ذهب إلي حجرة المكتب ، أما نور و ياسين ، فخرجا إلي الشرفة و جلسا فيها ...

هبت عليهما نسمات باردة تنبئ بقرب دخول الشتاء ، و إن كان ذلك لم يثنهما  عن البقاء فيها ، فالليل قد خلع سحرا غريبا علي الشرفة ، بظلمته التي لفت السماء من كل جانب و إن لمعت أرجائه بنجوم صغيرة بدت كقطع ألماس تناثرت بلا نظام .... و القمر توسطها مرسلا ضوء فضي جميل أنار الشرفة حولهما ... و نسمات الهواء أخذت تعبث بأحواض الفل و الياسمين المحيطة بالشرفة فأرسلت شذي جميل زاد الأجواء سحرا و فتنة ....

أخذت نور نفسا عميقا ، ثم أخرجته ببطء و هي تقول :

- رائحة الفل و الياسمين رائعة .....

رد ياسين بصوت حالم :

- فعلا ...

ساد الصمت بينهما قليلا ، و هما مستغرقان بكل حواسهما في الاستمتاع بالجو الجميل ، ثم قال الاثنان في وقت واحد :

" تعرف "       " تعرفي "

فضحكا ، ثم أشار لها ياسين بيده و هو يبتسم قائلا :

- أنت أولا

فابتسمت ابتسامة واسعة و هي تقول :

- سوف أعلم فاطمة القراءة و الكتابة

قال ياسين في سعادة :

- دا خبر رائع

كانت سعادته أكبر أن خطته بدأت تؤتي ثمارها بهذه السرعة ، من أول يوم و نور وجدت ما يشغلها و يملأ فراغها ، و قبل أن يكمل كلامه رن تليفونه ، كانت دينا المتصلة ، فرد قائلا :

- توتة حبيبتي

لم تستطع دينا أن تمنع الابتسامة التي ارتسمت علي شفتيها ، ثم قالت بلهجة مرحة :

- ما أخبار الاجازة يا باشمهندس ؟

- تمام الحمد لله ، أنت ما أخبارك ؟

- أنا في اسكندرية ، ما رأيك تأتي و تُمضي معنا يومان ؟

- معلش ، إن شاء الله مرة أخري ، أصل ... أنا في البلد

سكتت تماما ، فقال ياسين :

- نور بتسلم عليكِ جداً

 " نور "

شعرت بالغيرة تدفع بالدموع إلي عينيها دفعا ، تجمد لسانها و كأنها فقدت القدرة علي النطق ، ثم قالت بصوت مخنوق :

- الله يسلمها ... ياسين ، أنا مضطرة أقفل الآن ، أصل ماما .. تنادي عليّ

شعر ياسين بشئ من الغرابة من كونها تنهي المكالمة هكذا فجأة و لكنه لم يملك إلا أن يقول :

- ماشي ، سلام يا توتة

ظل صامتا للحظات بعد أن أقفل و هو لا يفهم ما اعتراها ، لم ذهبت هكذا فجأة ، و لم شعر بتغير في صوتها ... انتبهت نور لصمته و قبل أن تتكلم ، دخلت فاطمة حاملة صينية عليها أكواب الشاي ..

تناول كل منهما كوبه ، ثم اندمج ياسين في الحديث مع نور محاولا تجاهل التساؤلات التي دارت بخاطره .

أما دينا ، فأغلقت التليفون و ظلت جالسة مكانها علي الكرسي و عيناها ملئي بدموع القهر ....

" غبية .... "

هكذا صاحت فيها نفسها .... " لم اتصلتِ و قد نهيتك عن ذلك .. "

سالت دمعة علي وجنتها .. " ظل قلبك يلح عليك راجيا الاتصال ، رافعا راية العشق و الشوق حتي أطعتيه ... و أين هو منك الآن ... ؟

معها ... مع نور ... و أنت ِ .. أنتِ هنا وحدك ...

لا تفكرين إلا فيه ... و لا يفكر إلا فيها ... "

و مع كل كلمة تتردد داخلها يغرق وجهها بدموع ساخنة ، قامت من مكانها و أخذت تدور في الحجرة كالنمرة الجريحة ، و هي تشعر بضيق رهيب يطبق علي صدرها ... لم تستطع أن تحتمل جو الحجرة الخانق ، فألقت بشال علي كتفها ثم خرجت و جلست علي الشاطئ أمام الشاليه ...

البحر يبدو في امتداده و اتصاله بسواد السماء كأنه لا نهاية له ، تماما كالضيق المسيطر عليها ....

و هدير الموج الصاخب كالانفعالات الثائرة في صدرها .... و سكون العالم حولها كالوحدة و الوحشة في قلبها .... دموعها الساخنة تحرق وجهها مختلطة بطعم الملح علي شفتيها من تطاير رذاذ البحر عليها ...

أين أنت مني يا من لم يشغل قلبي  يوما سوي بك .... أين أنت مني يا من سكنت بين الضلوع  ... و اتخذت مجلسا دائما لا تبرحه ...

شعرت بحركة بجانب قدمها ، فرأت سرطان صغير خرج من حفرة لا تبعد عنها كثيرا ، و أخذ يتفقد صدفة علي الرمال ثم عاد لحفرته مرة أخري و كأنه لم يجد ما يبحث عنه ... و كأنه لم يخرج من مكمنه إلا ليهيج لديها سابق الذكريات و يزيد من كربها .. و يشعل نارا علي نارها .... تذكرت كيف جمع لها الصدف يوما و صنعه عقدا لم يفارق أبدا جيدها  ....

لم يكن ياسين لها مجرد حبيب ... و إنما كان ... و مازال ... كل ما في الحياة ... و خير ما في الحياة ... حتي العاشرة من عمره كان يسكن معهم في نفس الشارع قبل أن ينتقل للعمارة التي بناها جده ، و هي وحيدة أبويها ، فكان دائما ما يهتم بها و يدللها و يلعب معها و يعتني بها .. منذ نشأت و هي تري فيه خير الأخ و الصديق و الحبيب ... عرفته أكثر مما عرفه أي إنسان .. فهمت كل خباياه و اطلعت علي نفسه ربما أكثر مما هو نفسه يعرف ... فلا إنسان و لا ... إنسانة ... أدري به منها... إنها تحفظ ثنايا فمه حين يبتسم ... و تقطيبة حاجبيه حين يغضب ... تستطيع من دون أن يتكلم أن تفهم حاله .. و تدرك سره ... و نبرة صوته معها دائما ما تفضحه ....

و نبرة صوته الآن كانت سعيدة ..... سعيدة كأقصي ما تكون السعادة ....

كادت أنفاسها تنقطع من شدة البكاء المر الذي يمزق القلب أشلاء ... تذكرت كل من مروا عليها ... كثيرون هم من حاولوا التقرب منها و الفوز بقلبها .. و لكنهم لم يدركوا أن قلبها لم يكن لها أبدا ... لم تملكه يوما ... دائما ملكه ... للأبد ملكه ... و الآن ....

ها هي ... هنا ... وحدها ...  و هو هناك ... معها

حاولت مرارا في الأيام الماضية أن تصور الأمر علي غير حقيقته ، و تقنع نفسها أنها أساءت تفسير ما رأت ، و أن الأمر لا يعدو أن يكون صداقة و مودة بينه و بين نور باعتبارها ابنة خاله ، و كونها يتيمة الأبوين ....

و لكن من تحاول أن تخدع ... صداقة و مودة !! ...

 زفرت في سخرية ... بل هو حب ... حب عميق متأصلة جذوره في قلبه بلا شك ...

لحظات عديدة تتوارد إلي ذهنها تباعا عن كل مرة تحدث فيها عن نور أو إليها .. أمامها .. كيف لم تنتبه لرنة الحب في صوته ... و نظرة الحنان في عينيه .... كيف كان يتكلم عنها أو ينطق باسمها ... أشياء صغيرة يبدو أنها كانت تتغافل عنها عمدا و هي أدري الناس به ... و كأن قلبها يشعر بذلك ، و يخفي عنها مخافة الصدمة في حب حياتها ... و الآن انكشف كل شئ و اتضحت الأمور ...

قلبها ... ملكه هو ...  و لكن قلبه ... ملكها هي

دفنت وجهها بين يديها و كأنها تحاول أن تهرب من أفكارها ... تمتمت من بين دموعها الغزيرة ...

" يالعذابي و حيرتي .... يالعذابي .. "

أين أهرب و هو في كل مكان ... في كل تفصيلة صغيرة حولي ... عشقه للبحر .. و امتداده في اتصاله بالسماء ..... الصدفة علي الرمال .. هدير الموج ... الشاليه و ذكريات الصيف الجميلة ....

إني لأكاد أراه في ملامحي .. كم أخبرني أنه يحب شكلي حين أفرق شعري و أضفره بعناية ... كم امتدح جمالي ... بل إني لأحفظ ما يحب من ملابسي و ما يكره ...

أين أذهب ... أين أذهب ... أكاد أجن ... و إن تركت كل التفاصيل ورائي ... فهو في نفسي ... هو نفسي ... هو حياتي .... لا مهرب منه سوي بالهرب من الحياة ... ألا فلأكتم أنفسي  حتي أتخلص من حبه ، و إن كنت أشك أن روحي ستظل معلقة في السماء تدعو الله أن يجعله لي ....

حمم الدموع لا تنقطع ،  روحها تتمزق و قلبها يلفظ أنفاسه الأخيرة ، و نفسها لا ترحم ...

أنقذها مما هي فيه ، صوت أمها تنادي عليها ، فأسرعت تمسح الدموع من علي وجهها في سرعة ، أخذت نفسا عميقا تهدئ به ثائرة نفسها ، ثم مشت في خطوات بطيئة و كأنها تكاد مع كل خطوة تسقط علي الأرض و هي تجر قدميها جرا علي الرمال حتي وصلت الشاليه ، و دخلت حجرتها ......

ظلت واقفة قليلا في صمت و كأنها تتمني لو من كان كل ما فكرت فيه مجرد كابوس و ذهب ... و لكن أدركت أنه واقع ... حقيقي ... مرير ... و كأنها صدمت من جديد ... فانهارت فجأة علي السرير منفجرة في البكاء .

الفصل السابع: لن اتركك





مرت الليلة بسلام، عادت نور إلي منزلها تجر شقاءها.. و في اليوم التالي سافر عمر و عروسه إلي دبي .. عادت الحياة إلي مجراها الطبيعي .. و مرت أيام و ليال طويلة انقبعت فيها نور في المنزل و انعزلت عن الناس .. بينما كان ياسين مشغولا بعمله الجديد الذي كان لا يعود منه قبل دخول الليل .
و في أحد الأيام عاد ياسين مبكرا، فتح باب الشقة بمفتاحه و دخل في خطوات بطيئة .. مرهقة ، متجهاً إلي حجرته و لكنه لم يلبث أن سمع صوت أمه العذب و هي تدندن أغنية قديمة معروفة أثناء وقوفها بالمطبخ ... سري من صوتها ابتسامة إلي شفتيه ... كم يحب صوتها الهادئ الحنون كأنه حضنها الدافئ يبعث في القلب الراحة و الأمان ..
إتجه إلي المطبخ و ظل واقفا وراءها للحظات ، مسندا مرفقه إلي الحائط و هو يستمع لها ، ثم استدارت فرأته ، رجعت للوراء خطوتين و كادت توقع ما في يدها ثم قالت و هي تضحك :
- أفزعتني يا ياسين ، ما الذي جاء بك الآن؟
ضحك لرد فعلها و قال بابتسامة حلوة :
- أنهيت عملي مبكرا و لكن جذبني صوت البلبل الجميل ، فلم أستطع سوي أن أقف مستمتعا
احمرت وجنتيها من كلمات ولدها و أشرقت عيناها بالحنان و هي تقول مازحة :
- بل جذبتك رائحة الطعام يا كذاب
ضحك و قد رسم البراءة في عينيه :
- أنا  !!
ابتسمت و هزت رأسها ثم قالت و قد عادت لما كان في يدها :
-  أسرع بتغيير ملابسك لتتناول معنا الغداء
قبّلها علي جبينها ثم خرج من المطبخ متجها إلي حجرته ، دخل و أغلق الباب وراءه .. خلع الجاكت و رماه علي مقعد في جانب الحجرة ، ثم ارتمي علي السرير في تعب ... كان يشعر بالإرهاق في كل خلية من خلاياه، حقاً لقد استهلكه هذا المشروع الأخير إلي أقصي درجة و لكن – حمدا لله – استطاعوا أن ينهوه قبل الموعد المحدد بشهر و كافأتهم الشركة بإعطاء جميع المهندسين الذين عملوا في المشروع هذا الشهر إجازة .
 أطلق تنهيدة قوية من أعماقه ، و كأنه يزيح بها ما أثقل صدره من تعب .. لقد جاءت هذه الإجازة في موعدها.
ظل راقدا ، محدقا في السقف حتي سمع أمه تناديه لتناول الطعام ، فقام من مكانه بتثاقل و بدل ملابسه ثم خرج إليهم .
 جلس إلي المائدة يلوك الطعام في صمت و كأنه يبذل مجهود في تحريك يديه لتناول الطعام ، قطعت أمه الصمت موجهة كلامها إلي أبيه :
- كلمني أبي اليوم و أخبرني أنه سيسافر البلد بعد يومان و سيظل هناك نحو شهر
رد الأب :
- لم؟
- أنسيت ! هو دائما يسافر في هذه الفترة من السنة من أجل أمور الأرض
- مممم
تدخل ياسين في الكلام قائلا بصوت حاول أن يجعله لا مبالي :
- نور ستسافر معه ؟
فردت أمه :
- لا ، لكني حاولت إقناعها بالسفر دون جدوي .. علي الأقل تغيير جو .. لا أدري حالها لا يعجبني هذه الأيام
فقال الأب :
- لماذا ؟
صمتت الأم قليلا ثم قالت :
- يعني ... طول الوقت صامتة و ليست عادتها ...  شحب وجهها و هزلت من قلة الطعام
فقال الأب :
- أكيد تشعر بالفراغ ، يعني .. لقد أنهت دراستها و هي لا تعمل
- يمكن ...
ساد الصمت مجددا ، ثم أخبرهم ياسين عن إجازته فابتهجوا لذلك ، لم تلبث أن قالت له أمه بابتسامة حلوة و كأنها عالمة بما أخفي ابنها بين حنايا صدره :
- لم لا تسافر مع جدك يومان .. تأخذهما راحة في البلد
نظر إليها و كأنه يحاول أن يستشف مدي ما تعرفه عما أخفاه عن كل الناس ، ثم قال :
- لا أدري .. لم أفكر فيما سأفعل في هذه الإجازة !
أنهي طعامه و ذهب إلي حجرته ، و ما إن وجد السرير أمامه حتي ارتمي عليه و راح في سبات عميق .
ظل ياسين نائما لفترة لا يدري طولها حتي استيقظ علي صوت آذان يتردد في الأنحاء ، كانت الغرفة غارقة في الظلمة فلم يدر أي آذان هو ... مد يده و أخذ يتحسس بجانبه بحثا عن تليفونه حتي وجده ، نظر في الساعة فوجدها الخامسة فجرا ...
يااااه ... هل نام كل هذه الفترة ، اعتدل في السرير و فرك عينيه و هو يردد وراء الآذان ، قام من مكانه في كسل ، فتح باب الحجرة و أخذ يمشي بتثاقل علي ضوء تليفونه المحمول ، دخل الحمام و توضأ ثم عاد إلي الحجرة و شرع في أداء ما فاته من صلوات . و بعد أن انتهي شعر ألا رغبة لديه في النوم ، ففتح الشرفة و رتب السرير ثم أعد كوبا من الشاي و جلس علي المقعد الوحيد الموجود بالشرفة الصغيرة ...
أخذ يتأمل الدنيا حوله و ظلمة الليل مازالت غالبة و إن كان وهج فضي جميل يتسرب بين سواده كأنها أنفاس الصباح الأولي ... كم يعشق هذا الوقت من اليوم ، فهو يخلق لديه احساس جميل .. غريب .. يجمع بين الوحدة و الأنس ...
وحدة المستيقظ وحده و كل الناس نيام ، و كأنه الشخص الوحيد في الكون .. تبدو السماء ملكه تكاد تلمسها يده... تتخلل أصابعه رقيق السحاب  ... يكاد يمسح علي رأس العصفور الصغير الذي يبدو و كأنه يمر من بين ذراعيه.. منتشيا من نغمات زقزقته.
و أنس الحبيب الذي لا يغيب .. الحي الذي لا يموت ... كأن الله له وحده الآن ، جميع الناس ناموا فسكتت ألسنتهم .. لا كلام و لا دعاء ، سكنت حركاتهم .. فلا عبادة و لا ذنوب .. هو وحده معه الآن .. تدلفته الظلمة و سكن قلبه الخشوع ، يشعر برحمة الله تحوطه ... يري الدنيا أصغر و أقصر من أن يهتم بها الانسان و يبذل في طلبها الجهد و المساعي ..
أفاق من تأملاته علي نور الصباح الذي غشي الليل و بدد ظلمته ، و إن كان القمر مازال يظهر طيفه شاحبا و كأنه يلقي التحية الأخيرة قبل الرحيل ، و الطيور تبدو كخيط أسود رفيع تحركه هبات الريح يمنة و يسرة .. .
قام من مكانه و وضع الكوب الفارغ علي الطاولة في الحجرة ، ثم أخرج من مكان صغير، ضيق بجانب الدولاب لوحة مغطاة بقطعة قماش ، أحضر أدواته ثم خرج مرة أخري إلي الشرفة و أزاح قطعة القماش كاشفاً عن وجه مرسوم بعناية و دقة أسبغت عليه روحاً ملائكية  كأنه مستوحي من فيض نور .... وجه نور .
أمسك الفرشاة و أراد أن يكمل رسم عينيها .. فاحتار ... كيف يستطيع أن يرسم عينيها الصافيتين المكللتان بأهدابها الرقيقة الحالمة .. كيف يبعث عمق نفسها و رقة شعورها و حلاوة مرآها و لذة نسيان العالم فيهما ... نظر إلي السماء و كأنه يستلهم من اختلاط زرقتها بقطع السحاب الأبيض المتناثر وحي رقتها و نقاءها .
عاد يتأملهما قليلا و كأنه أمام معضلة صعبة الحل ، ثم انتقل بعينيه إلي وجنتيها و ارتسم عدم الرضا علي وجهه .. أين ما رسمه من خطوط جامدة من تلك الخدود المستديرة بامتلاء خفيف و حمرة لطيفة ...  تفاحتان نضرتان ناعمتان يكاد يفوح عطرهما الذكي مشيعا في روحه بهجة و سعادة ...
 حسنا ، و الشفتين ، لا .. لا ، هاتان يجب إعادة رسمهما .. كم مرة مسحهما و أعاد رسمهما لأنه كل مرة لا يصل إلي ما يريده و لا يكاد حتي يقترب ... يشعر أن موهبته تتبخر أمامهما ... كيف له أن يرسم شفتيها الصغيرتين الرقيقتين ... و من أين له بلون الكرز الأحمر ليسبغه عليهما ....
  دفئهما الجميل و الحرارة المنبعثة منهما يفوقان كل ما تعلمه و خبره .... تلك الحياة الحرة علي شفتيها لا تعيش في رسم جامد .... كيف يجعل كل هذه الرقة و الأنوثة تفتر عن لآلئها البيضاء النقية في أروع ابتسامة رأتها عينيه ...إشراقة ساحرة و فتنة تخلب الألباب ... .
ظل صامتا لفترة ، متأملا ، ثم أعاد الفرشاة مكانها و كأنه يعترف بعجزه ... غطي اللوحة بقطعة القماش و أعادها مكانها ، ثم عاد إلي الشرفة و لكنه لم يجلس .. ظل واقفا ، مستندا إلي سورها و كأن حرارة المشاعر في قلبه .. و لهيب الحب الثائر بين ضلوعه ، بعث فيه طاقة هائلة و قوة لفعل أي شئ و كل شئ ... لا يستطيع أن يظل جالس ...
" إلي متي سيظل الحب مختبئا بين الحنايا ، مختفيا بين الضلوع ، ساكنا في كل ذرة ، ناطقا بالعشق مع كل دقة ... إلي متي ؟؟ "
سأله قلبه هامسا ، فلم يدر جوابا لسؤال طال تكراره دون رد ....
" نعم ... إلي متي يا قلبي ؟ إلي متي و أنا أراها كل يوم تذبل كوردة تفقد رونقها رويدا رويدا ... إلي متي سأظل ساكنا .. إني لأدفع عمري كله لقاء فرحة تطل من عينيها ... لا أدري ماذا أفعل ... "
صاحت به نفسه في غيظ " أحدثك عنك ، عن حبك الصامت .. فتحدثني عنها و عن حالها "
و ما نفسي و ما حبي إلا هي ، هي نفسي و روحي و قلبي و عقلي .. خيالي و واقعي .. ماضي ، حاضري وما تبقي من عمري ... ما الحياة عندي إلا نظرة منها أو ابتسامة من شفتيها .. كلمة حلوة أسمعها بصوتها ... ألا تفهمينني يا نفسي ، هي ليست حبيبتي فقط ... هي الحبيبة و الأخت و الأم و الابنة و الصديقة .. هي كل شئ في الحياة .. هي الحياة ...
أحياناً أشعر و كأنها صغيرة ، صغيرة و كأنني أريد أن أُجلسها علي رجلي و أضمها إلي صدري و أعبث بأصابعي في جدائل شعرها ، و كأنني أريد أن أحضر لها حلوي لأري سعادة الأطفال في عينيها .... و أحياناً أخري ، أشعر كأن الطفلة الصغيرة استحالت أما حنونة ، في حضنها السكينة و بين ذراعيها الراحة و الأمان .... أتذكر يا قلبي ، ذلك اليوم في السنة الماضية حين عدت من الجامعة و قد بلغ بي التعب مبلغه .. كانت العائلة كلها مجتمعة عند جدي ، فحاولت أن أتظاهر بالضحك و المزاح كعادتي و أخفي ما بي ، و لكنها ... هي وحدها أحست بي .. دون أن أتكلم .. أحضرت وسادتين و أصرّت أن أرفع عليهما قدمي ثم أحضرت لي طعامي و تركتهم و جلست بجانبي تحدثني .. ياااااااه ، زال كل التعب و اختفي ... تبخر .. حلت محله سكينة هادئة و ملأت الطمأنينة و الراحة نفسي ، لم أتخيل يوما أن تلك الحركات الصغيرة الرقيقة منها يمكن أن تبعث في نفسي  كل هذه اللذة و الراحة و المتعة ... .
لا أستطيع ، لا أستطيع أن أتركها تغرق في حزنها .. لا أستطيع أن أسمح للضيق أن يستولي علي قلبها ، همس فحيح داخل نفسه ...
" أنت أناني ، أنت تريد أن تنسيها عمر فقط حتي تكون لك أنت "
لا ، لا ،لا ، ليس من أجلي ، ليس من أجلي و إنما من أجلها هي ... لكي تعود لنضارتها و رونقها و بهجتها ، ها هو قد مر علي زواج عمر شهران و هي ما زالت علي حالها .
وضع يده علي جبهته ، و أخذ يفكر كيف  يستطيع أن يخرجها مما هي فيه ، كيف يستطيع أن يعيد السعادة إلي قلبها ... استعادت ذاكرته ما قاله والده من كلمات ... الفراغ ، نعم إنه الفراغ ... لا ريب في ذلك ، لابد أن يدفعها إلي أن تشغل وقتها كله ، يجب ألا يترك نفسها تقلب فيما حدث و تعيد مؤلم الذكريات .. يجب أن تنساه حقيقة لا وهما حتي تستطيع أن تمضي في حياتها .. من أجلها ، و ليس من أجله ، أبداً .. سيقنعها أن تسافر إلي البلد ، هذه فرصة جيدة لها لكي تغير ما تراه من مناظر كل يوم ، سيسافر معها و سيجعلها تشغل كل ثانية من وقتها بشئ جديد ... لابد و أن تنسي حبه حتي تستعيد نفسها ...
تنهد بعمق  ليطفئ بعضا مما اشتعل بنفسه بنسمات الصباح الباردة ، جلس علي المقعد و كأنما أنهكه ذلك الزخم من المشاعر الفياضة داخله .. ظل ساكنا لفترة ، ثم قام و أحضر اللوحة ، أزاح قطعة القماش و أمسك الفرشاة ........  سيعيد لعينيها الصفاء و لوجنتيها النضرة و لشفتيها الابتسامة ، سينتظر بعض الوقت حتي يتأكد من استيقاظها ، ثم سينزل إليها ليحدثها .
ظل ياسين جالس في الشرفة حتي توسطت الشمس كبد السماء و صارت الحرارة لا تحتمل ، و لكنه كان مستغرق بكل حواسه و مشاعره فيما ترسمه فرشاته و عيناه لا تتحولان عنها ، و كأنه يستدعي كل ما حباه به الله من موهبة ليتفنن في رسم كل تفصيلة صغيرة في وجهها .
شعر بيده تتعرق من الحرارة فخاف أن يفسد اللوحة ، قام من مكانه و أدخلها الغرفة ، ثم سمع صوت حركة في المنزل فعلم أن أمه استيقظت فخرج ليلقي عليها تحية الصباح ، و ما كاد يفتح باب الحجرة حتي سمع جرس الباب يرن بإلحاح و كأن أحدهم وضع يده علي الجرس دون توقف .
تحرك ناحية الباب و لكن سبقته أمه و فتحت لتجد أمامها دينا ابنة عمه التي قالت بابتسامة واسعة:
- صباح الخير يا طنط ، جئت أزعجكم قليلا
ضحكت أم ياسين و احتضنتها و هي تقول :
- صباح الفل يا توتة ، أحلي إزعاج في الدنيا يا حبيبتي
دخلت دينا ثم رأت ياسين فقالت متهللة لرؤيته :
- ياسين شخصيا بالبيت ؟
ثم غمزت بعينها قائلة :
- تزويغة اليوم أم ماذا ؟
لم يستطع أن يمنع تلك الابتسامة الضاحكة التي احتلت شفتيه ، ثم رد و هو يقلدها غامزا بعينيه :
- لا يا دودة ، اجازة شهرتبدأ من اليوم
فضحكت ثم قالت لزوجة عمها :
- أترين يا طنط ، ليس لديه تسلية سوي السخرية مني ، جميع خلق الله ينادونني توتة و هو يناديني دودة !
ضحكوا لقولها ثم قالت أم ياسين و هي تتجه إلي المطبخ :
- سأذهب لأعد لكي فطور
تبعتها دينا و هي تقول ضاحكة :
- لا ، دعينا نري ماذا أعددت للغداء مباشرة
ضحك ياسين و هو يراقبها مبتعدة ، كانت دينا متوسطة الطول ، بيضاء البشرة و أجمل ما فيها عيناها الواسعتان ، ضحكتها الرائعة و روحها المرحة  ...
" كم أحب هذه الشيطانة الصغيرة "
قالها في نفسه مبتسما ، لم تكن دينا بالنسبة له ابنة عم فقط و لكن أخته الصغيرة التي يحرص عليها و يهتم بها و يدللها و كأنها طفلة علي الرغم من أنها قاربت علي إكمال عامها العشرين .
قطع أفكاره خروجها من المطبخ متجهة إلي حجرته ، تذكر اللوحة التي تركها في منتصف الغرفة ، فقام من مكانه بسرعة و وقف أمامها و هو يقول مبتسما :
- أين تظنين نفسك ذاهبة ؟
وضعت يديها في وسطها قائلة :
- سأحضر ل طنط شيئا من حجرتك
- ألم أُعلمك أن تستأذني أولا
رفعت أحد حاجبيها و هي تقول :
- منذ متي إن شاء الله
فرد ضاحكا :
- من الآن
ثم سبقها إلي الحجرة و هي قادمة ورائه ، أسرع بإخفاء اللوحة بقطعة القماش ، فلما رأتها سألته عنها ، فأخبرها أنها لوحة لم تكتمل بعد ،ثم حملها و وضعها في مكانها بجانب الدولاب و هو يقول :
- هيا ، ابحثي عما كنت تريدنه
أخذت تبحث في أرجاء الحجرة و عيناها تختلسان النظر في فضول للوحة الموضوعة بجانب الدولاب ، ثم أخذت أم ياسين تنادي عليه بإلحاح فاضطر أن يذهب إليها بعد أن جعل دينا تعده أنها لن تري اللوحة لأنه سيريها لها عندما تكتمل و هو يعلم أنها إذا وعدت لن تنكث .
خرج من الحجرة ، فوقفت قليلا أمام اللوحة و هي تتمني لو تزيح الغطاء قليلا ... ابتسمت في خبث ، تري لماذا لا يريدها أن تري اللوحة ؟ اتسعت ابتسامتها أكثر لخاطر جال بخيالها و أشاع في نفسها سعادة ... أيكون قد رسمها هي ؟ يا ليته يكون قد فعل ... لو يعلم كم سيسعدها ذلك لفعلها و لا شك .. لو يعلم كم تحبه ... و كيف تحيا به و تتنفسه .. و تتمناه في كل لحظة و ثانية .. و أنه خير لها من الحياة و ما فيها ...
" لا تحلمي كثيرا حتي لا تصطدمي بالواقع "
أيقظتها نفسها بهذه الكلمات .. صحيح يجب ألا تغرق في الأحلام ... في النهاية قد تكون مجرد لوحة عادية جدا، مطت شفتيها في غيظ من الفضول ، ثم أسرعت تبحث في أدراج المكتب الموجود بجانب الدولاب لكي تخرج من الحجرة قبل أن تنكث بوعدها .
وجدت ما تبحث عنه ، و فيما هي تستدير لتخرج تعثرت في طرف السجادة فوقعت يدها علي الغطاء الموجود علي اللوحة فانزاح عنها ... و رأت وجه نور المرسوم بعناية ... اتسعت عيناها في ذهول ... ثم قرأت البيتين المكتوبين أسفلها ....
 " أنقي من الفجر الضحوك            و قد أعرت الفجر خدك
     و أرق من طبع النسيم                فهل خلعت عليه بردك "
تراجعت إلي الخلف خطوتين فسقطت علي كرسي خلفها من أثر المفاجأة ... " نور "
لم يرسمها ؟؟ .... لماذا لم يرد لي أن أراها ؟؟ ما هذا البيتان .... ؟؟
 شعرت بقلبها يدق بعنف ، و ضيق يكاد يحطم ضلوعها ... يا إلهي ... هل يحبها ... تصلبت عيناها علي اللوحة .. ما تلك العناية و الدقة في رسمها .. إن اللوحة تكاد تنطق برقة اليد التي رسمتها ... كأنها ملونة بحنان عميق و ليس بضربات فرشاة ... شعرت أنها تكاد تجن ... نار غيرة عمياء تأججت في عينيها لتعكس لهيب مشاعرها ... صدمتها ... حبها ... بل عشقها ... لا يمكن ... لا يمكن ... بدأت النار المشتعلة في عينيها تنطفئ بالدموع المنكسرة التي بللت أهدابها ... لماذا يا ياسين ... لماذا ... يا ... حبيبي ... يا كل ما في الدنيا ... يا أحلي ما في الدنيا ... لماذا يا من لم يشغل قلبي يوما سواك و لا زارني أبدا غير طيفك الحنون ... أتحبها .... ؟؟؟؟
 و أنا ... أنا .... لا يحبني ...
 تفجرت الكلمة داخلها محيلة إياها أشلاء ممزقة .. متبعثرة ..  لا يمكن .. ليس ياسين .. لا يمكن
 " ياسين .. ياسين "
رددت اسمه في وهن يفتت القلب و هي تعض علي شفتيها .. و كأنها تتمني لو يسمعها ... لو يأتي ليخبرها أنها مخطئة ... أنه يحبها هي ..
" لا يحبني "
ترددت الكلمة مرة أخري داخلها في قسوة مفرطة ... يا إلهي .. كل هذه السنين منذ وعت عيناي علي الدنيا و عرفت الحياة و أنا أحبه .. و هو ... يحبها .. يحبها هي ... كيف تركت روحي ترتبط بروحه .. و ربطت مصير حياتي و أحلامي به ... يالمصيبتي
دفنت وجهها بين كفيها و أجهشت بالبكاء ، و لكن سمعت صوت خطوات تقترب ... فانتبهت و أسرعت تتماسك و تمسح وجهها بكفيها ، أعادت الغطاء لمكانه كما كان و التقطت ما كانت تبحث عنه .. أخذت نفسا عميقا و أسرعت تخرج من الحجرة متجهة إلي المطبخ فاصطدمت بياسين الذي قال ضاحكا :
-  قطر يمشي ، خلعتي كتفي
لم ترد عليه و دخلت المطبخ و وضعت ما كان في يدها علي الطاولة ، ثم أمسكت حقيبتها و تظاهرت بالنظر في تليفونها ثم قالت بصوت حاولت أن تجعله يبدو طبيعيا :
- ياه ، لقد نسيت تماما أن لدي موعد مهم اليوم ، أنا آسفة يا طنط ، لابد أن أذهب و سآتي في يوم آخر إن شاء الله
- ألا تستطيعين تأجيله ؟ ابقي معنا اليوم
- للأسف لن أستطيع ، إن شاء الله سآتي في يوم آخر
ثم قبلتها ، و استدارت لتخرج من المطبخ فوجدت ياسين في وجهها و قد لبس بنطلون جينز و قميص أنيق و رائحة عطر جميلة تنبعث منه ، فابتسم لها ثم قال لأمه :
- ماما ، سأنزل عند جدي نصف ساعة
" جده ...... نور "
نظرت إليه نظرة حادة ، ثم خرجت مندفعة  و هي تقول :
- سلام
حاول أن يلحقها قبل أن تنزل و لكنها خرجت بسرعة و أغلقت الباب وراءها و دخلت الأسانسير و انصرفت ، فعاد إلي أمه قائلا بدهشة :
- لماذا انصرفت هكذا فجأة ؟
هزت أمه كتفيها ثم قالت :
- لا أدري ، قالت إن لديها موعد مهم تأخرت عليه
عقد حاجبيه و شعر أن الأمر ليس كما يبدو ، و لكنه لم يستطع أن يجد أي تفسير ، فظل واقفا للحظات ثم قبّل أمه و نزل لنور .

كانت نور تجلس في الشرفة و في يدها كتاب تاهت عيناها بين سطوره، و في رأسها حديث طويل يدور بينها و بين نفسها...
إلي متي هذه الحال ؟؟ إلي متي الحزن و الكآبة و الملل و السأم و الضيق ... ؟ أنت مجنونة إن فكرت أن تبقي علي حب كتب له الموت منذ تزوج عمر ... أفيقي من هذا الوهم ... لن تظلي هكذا طوال العمر ...
من قال أن الحياة توقفت لمجرد أن من أحببتيه تزوج غيرك .... لست أول من يحدث لها ذلك ، و لن تكوني آخر من تمر بهذه التجربة ...
أنت تعلمين جيدا ألا لوم عليه مطلقا ... هو لم يدر بحبك يوما .. و ليس معني أنه تزوج غيرك ، أنه لا يحبك ، بالعكس ... أنت تعرفين مقدار حبه لكي و اعتزازه بكِ كأقرب أصدقائه ...
ضحكت في سخرية و هي تقول لنفسها " نعم ، فعلا ، ألم أكن أول من يخبرها بنبأ خطبته "
هزت رأسها و كأنها تطرد هذه الفكرة من رأسها ... لابد أن أنساه ،أن أتخطي هذا الأمر و أخرج من هذه الدوامة ... نعم ، يجب أن أنتشل نفسي مما أنا فيه .... عمر الآن يجب ألا أفكر فيه إلا كأخ لي ...
يجب أن أعود لنفسي ... لابد أن أحيا و أستمتع بالحياة كما كنت ... ليس هناك ما يمنع أن أحب مرة أخري إذا صادفت الشخص المناسب ...
ابتسمت ابتسامة صغيرة حزينة ، و هي تفكر أنها لابد أن تبدأ في تطبيق هذه الأفكار التي راودتها ملايين المرات .
انتبهت علي رنة جرس الباب ثم سمعت صوت ياسين ، فقامت من مكانها و قد تهلل وجهها لرؤيته و انتشي هو من ابتسامتها الرائعة حين كللت وجهه نظرتها الحلوة و قال :
- يا صباح الياسمين
فردت بابتسامة واسعة :
- يا صباح النور ، لكن نحن جاوزنا الظهر ، أم أن شكلي يوحي أني مستيقظة لتوي
- ممم ، أهكذا هو شكلك حين تستيقظين ؟؟
ضحكت و هي تساوي شعرها قائلة :
- آه ، منكوشة
فرد باسما و هو يراقب حركة يدها :
- لا ، قمر
شابت وجنتيها حمرة خفيفة ، فزاد جمالها رقة و شعر بدقات قلبه و ابتسامته تكاد تفضحه ، فقال :
- علي فكرة ، سوف أسافر معكم غدا
- معنا !! أنا لن أسافر أصلا ... ثم .. أليس لديك عمل ؟؟
- أولا  أنت ستسافرين ، ثانيا أخذت شهر اجازة كمكافأة علي إنجاز المشروع الذي حدثتك عنه من قبل
فقالت بفرحة :
- فعلا ! ألف مبروك يا ياسين
ثم أكملت ضاحكة :
- لكني مازلت لن أسافر
- لا حضرتك ستسافرين معي ، لأني أريد أن اذهب لأغير جو و أرتاح قليلا ، و طبعا أنت لن تتركيني أسافر وحدي
- لكن ...
- من غير لكن ، سوف تسافرين من أجلي ، لا يوجد ما يدفعك للبقاء هنا علي أية حال
هزت كتفيها في استسلام و ابتسمت و قد أدركت أنه علي حق و قالت :
- حسنا ، سأذهب من اجلك
ابتسم في سعادة ، و قام من مكانه قائلا :
- هيا أمامي إذن ، أريني ماذا لديكم اليوم للغداء
و لم ينتظر ردها و اتجه إلي المطبخ ، فتبعته و هي تضحك ... و صوت ضحكتها يرن في أذنه ، مدغدغا حواسه في رقة ذاب لها قلبه و فيض من السعادة ملء عليه نفسه أن استطاع أن يعيد لشفتيها الابتسامة .