الفصل الثاني عشر: من أجلك وحدك (1)






لم يمر يومان حتي كان ياسين قد استعاد عافيته و أصبح قادرا علي السفر فعادوا إلي القاهرة . عاد بروح متفتحة بالأمل و التفاؤل .. بقلب نابض بالحب ، عاشق للجمال .. عاد بكل لهفة الانتظار الماضية علي ألا يضيع دقيقة أخري بعيدا عن نور و أن يتمم زواجه منها في أسرع وقت ممكن . لقد اتفقا علي ألا لزوم للخطبة فهما يعرفان ما يكفي و يفيض عن بعضهما و كل منهما يسكن من نفس الآخر سكني الروح من الجسد ، سيكتبان الكتاب في أقرب وقت ثم يقيمان الفرح بعدما ينتهي من تجهيز شقته .
في اليوم التالي لعودته استيقظ باكرا وعزم علي انهاء لوحته التي طال رسمها .. فتوضأ و صلي و أعد كوب الشاي المضبوط ثم خرج إلي الشرفة حاملا اللوحة و شرع في إكمالها بهمة و نشاط .
لم يعد يحيره كيف يرسم عيناها الصافيتان .. أو استدارة وجهها الجميل .. و حرارة لون الكرز الأحمر علي شفتيها ... كأن فرشاته تحفظ كل ثنية من ثنايا ملامحها بدقة ، و كأنها تتحرك بوحي من قلبه .. من فيض المشاعر المتدفقة داخله و سمو الأحاسيس الهائمة بنفسه .. .
ظل مستغرق فيما يقوم به حتي سمع آذان الظهر يتردد في الأنحاء ، شعر بتوتر في أعصابه فأخذ نفسا عميقا ثم قام ليذهب لصلاة الجمعة مع أبيه و قد انتوي أن يخبره بما عزم عليه و رغبته في الارتباط بنور .
بعدما انتهت الصلاة و أثناء عودتهما مشيا إلي المنزل ، فاتح ياسين أباه في رغبته الزواج من نور و لدهشته لم يبد أباه أي تعجب أو دهشة و انما ابتسم ابتسامة خبيثة و كأنه كان يدرك ما يجول بخاطر ابنه و ظل صامتا للحظات ثم قال و هو يضحك :
- و كأن أمك من أولياء الله الصالحين
ضحك ياسين متسائلا ، فأكمل أباه :
- البارحة فتحت معي هذا الموضوع و كانت ترغب مني أن أفاتحك أنا فيه
اتسعت ابتسامة ياسين في سعادة و قال بحماس :
- و ها قد وافقت رغبتكما ، دعنا نعجل بالأمر و نذهب الليلة لجدي
قال أباه في استنكار :
- الليلة !!
أومأ ياسين برأسه قائلا :
- لا داعي للانتظار
هز أباه كتفيه في تعجب و ضحك متمتا :
- يالحماسة الحب و فورته
احمرت أذنا ياسين و تظاهر أنه لم يسمع ما قاله ، و أكمل مشيه بخطوات ثابتة لا تعكس الرقصات الصاخبة المجنونة لقلبه المنتشي من السعادة .
و في المساء ، نزل ياسين و أباه إلي الجد في شقته ففتحت لهما نور التي ما إن رأتهما حتي انعكست الدهشة في عينيها و تسمرت لحظة ثم تداركت نفسها مرحبة في سعادة :
- أهلا أهلا ، تفضلوا
دخل زوج عمتها إلي الصالون و وراءه ياسين و في يده شئ لم تتبين كنهه و أخذت هي تنظر إليه في تساؤل ملح ، فتظاهر أنه لم يلاحظ ذلك و ابتسامة خبيثة تعبث علي شفتيه . دخلت وراءهما و أخذت ترحب بهما ثم قال لها زوج عمتها :
- وأين الحاج ؟ أهو نائم ؟
فردت نور :
- لا ، لا ، ثانية واحدة سأخبره بمجيئك يا عمو
قامت من مكانها و ذهبت لتخبر جدها و في رأسها ألف ألف تساؤل ، و كل تساؤل يزيد من اشتداد خفقان قلبها و يشعل فضولها .
لم تمض عشر دقائق حتي كان الجد جالسا معهما و بعد تبادل كلمات الترحاب العادية و السؤال عما استجد من الأخبار ، قال الجد لنور :
- من فضلك ، اطلبي من صباح أن تعد لنا بعض الشاي
" لااااااااااا "
ترددت قوية في غيظ داخل نفسها دون أن يظهر ذلك علي وجهها و هي تذهب لتفعل ما طلبه جدها ، فهي تعلم جيدا أن كلماته هذه في حقيقتها تعني " اذهبي إلي حجرتك الآن و اتركيني معهم وحدي " .
أخبرت صباح بما طلبه جدها ثم ذهبت إلي حجرتها و أقفلت الباب عليها ، ثم أخذت تدور في الحجرة و هي لا تجد مخرج مما اشتعل بداخلها من فضول .. تري لم جاء ؟ ياسين لم يخبرها أنه قادم ؟ و إذا كان قادم للقائي لم أحضر معه والده ؟ و لم طلب أن يري جدي .. !! ؟؟
ربما كان قادم وحده و عرض أبوه أن يرافقه فلم يستطع أن يختلق عذرا يهرب به من مصاحبته .. و ربما زوج عمتي يريد جدي في موضوع .. و ها هو ياسين عالق معهم في الخارج و أنا في حجرتي يتآكلني الغيظ !
زفرت في قوة و ألقت بنفسها علي السرير و أخذت تحدق في السقف " يا ربي ، حتي السويعات القليلة التي كنا سنجلس فيها سويا ضاعت "
لم تلبث أن همست نفسها في خبث " و لم لا يكون قد أتي ليطلب يدك من جدك "
اعتدلت فجأة من جلستها و قد أخذتها المفاجأة ، خفق قلبها في قوة .. تصاعدت حمرة الخجل لوجنتيها و ابتسمت في سعادة لهذا الخاطر الجميل ... " لكن ياسين أخبرني أنه يحتاج بعض الوقت حتي يفاتح أباه في الموضوع ! كيف بهذه السرعة و نحن قد عدنا لتونا من البلد ! ... ؟ لا ، لا .. غير معقول "
تقلصت الابتسامة علي شفتيها مع منطقية أفكارها ، قامت من علي السرير و عادت تزرع الحجرة جيئة و ذهابا و هي تقلب الأمر في رأسها ثم توقفت أمام الباب و حاولت أن تسمع أي شئ و لكنها كانت تعلم فشل محاولتها فلم تكن لتستطيع أن تسمع ما يقولونه بالصالون و هي بالحجرة .
لم تلبث أن سمعت طرقات عصاة جدها علي الأرض، فاحمر وجهها و كأنها ضبطت متلبسة، أسرعت تجلس أمام المرآة و تتظاهر بتسريح شعرها علي الرغم من انها لم تكن عالمة ما إذا كان قادم لها أم لا و لكن شيئا داخلها حدثها بذلك.
بالفعل لحظات و سمعت صوت طرق علي باب الحجرة ، فقالت بصوت حاولت أن يبدو هادئ :
- تفضل
دخل جدها فقامت من مكانها و أقفل هو الباب وراءه ثم جلس علي السرير و أشار لها أن تجلس بجانبه. ازدادت ضربات قلبها قوة و تسارعا، حاولت أن تمنع الابتسامة الخجولة من الظهور علي شفتيها و لكنها لم تستطع و همست نفسها " تبدين بلهاء"...
ظل جدها صامت للحظات متأملا إياها من طرف خفي و كأنه يستشف مدي ما تعرفه عما يريد قوله و شبح ابتسامة يلوح علي شفتيه، ثم قال :
- أتدرين لم جاء ياسين و أباه ؟
هزت رأسها نفيا و شعرت أن الفضول داخلها بلغ ذروته ، فقال جدها :
- جاءوا يطلبون مني يدك
تماسكت بصعوبة لكي لا تتسع شفتيها لابتسامة عريضة هي أقرب للضحكة ، أو لكي لا تقوم لتدور في الحجرة و تملأها غناء و رقصا من السعادة. نظرت في الأرض لتخبئ كل هذا في عينيها و ابتسامة كشفت عن لآلئها البيضاء قالت كل ما يمكن أن يقال، نظر الجد إلي بشرتها البيضاء التي استحالت للون أحمر قان فابتسم لحالها و كأنه عالم بخبيئة نفسها و قال :
- بالطبع لن أرد عليهم إلا بعد أن أعرف رأيك أولا ، و إن أردت وقتا لتفكري فلكِ ذلك طبعا
ظلت صامتة و هي لا تدري بم ترد و إن كان كل ما فيها يريد أن يقول بملء الفم " وقت لأنتظر يا جدي !!! كفانا انتظارا .. كفانا بعدا .. أأغلي أمنياتي علي بعد خطوات مني و أؤجلها !! أمجنونة أنا !"
قال الجد بعد صمت قصير و قد أدرك حياءها :
- أتوافقين ؟
من شدة خجلها شعرت و كأن كل عضلاتها تيبست حتي الابتسامة التي تخشي انقلابها لضحكة صاخبة ، حتي رأسها لا يريد أن يومئ ايجابا و لا يدها تستطيع أن تحركها و كأن نفسها ذابت في خضم المشاعر الفياضة في صدرها ، أخذت نفسا و استجمعت قواها للحظات ثم أومأت برأسها ... لم يتمالك الجد نفسه من منظرها و ضحك قائلا:
- أخيرا
فضحكت و لم ترد ، قبلها فوق جبينها و قال في حنان :
- مبارك يا حبيبتي
ثم خرج من الحجرة و ظلت هي جالسة مكانها غير مصدقة و كأنها كانت تحلم ثم سمعت صوت خطوات و باب الشقة يُفتح ، لحظات و أغلق و كأنهم انصرفوا.
عقدت حاجبيها في غيظ " هذا الأبله ، لم انصرف ؟ "
صاح قلبها " لا تقولي أبله "
ضحكت من نفسها و قالت بصوت خفيض محدثة نفسها " حسنا ، هذا الحبيب القريب الغالي الذي سكن القلب و امتلك مفاتحه ، لم انصرف ؟ "
لحظات و سمعت صوت باب حجرة جدها يغلق ، فقامت من مكانها و خرجت من الحجرة ، فوجدت البيت ساكن ثم شعرت بأزيز تليفونها المحمول في جيبها فأخرجته ، وجدت رسالة من ياسين فأسرعت تفتحها في لهفة ...
" أنت أحلي و أجمل و أرق و أرقي و أبقي من أي حلم تخيلته أبدا ، هذه أسعد ليلة في حياتي كلها ... حتي الآن ، تمنيت أن أظل معك و لا أذهب و لكن غصب عني ، اتفقنا أن تجتمع العائلة كلها هنا عند جدي الجمعة القادمة لكي نعلن الأمر رسميا و أجعل في اصبعك دبلتي ، تركت لكي في الصالة شيئا ، افتحيه و اقرئي الرسالة الموجودة به .. منتظرك بكل اللهفة و الشوق في قلبي "
ظلت تقرأ الرسالة مرات و مرات و مرات و تتوقف عند كلماتها و كأنها تتشرب كل كلمة منها و كل دفقة مشاعر فيها ، انتزعت نفسها من ذلك و ذهبت للصالة ... خمنت أن لا شك ذلك ما كان يحمله ياسين في يده و لم تتبين كنهه. اقتربت في فضول فوجدت شيئا كبيييرا ملفوفا في ورق أبيض أنيق ملئ بالنجوم المذهبة و فيونكة كبيرة بلون الذهب أحاطت به ، اتسعت ابتسامتها ... لولا فضولها لما فتحتها من روعة منظرها...
أخذت تفض الغلاف ببطء لكي لا تقطعه و ما إن أزاحته حتي اتسعت عيناها من المفاجأة و وضعت يدها علي فمها المفتوح علي آخره و شعرت أنها تريد أن تصرخ من الفرحة ... يا إلهي .. لوحة مرسومة لها بهذه الدقة ... و هذا الجماااااال .. أخذت تضحك في هستريا و هي لا تكاد تصدق أنه فعل ذلك حقا .. لو أنها حقا تبدو كشكلها في اللوحة فلا شك أنها ساحرة الجمال ... أخذت تضحك في سعادة .. هذه أجمل أجمل هدية حصلت عليها في حياتها ... إنها رائعة .. أكثر من راااائعة ...
أخذت تتمتم في فرحة :
- يا حبيبي يا ياسين .. يا حبييييبي
قرأت الأبيات المكتوبة علي طرف اللوحة ...
" أنقي من الفجر الضحوك و قد أعرت الفجر خدك
و أرق من طبع النسيم فهل خلعت عليه بردك "
احمر وجهها خجلا و شعرت بغشاوة رقيقة من الدمع علي عينيها من شدة فرحتها و قوة خفقان قلبها و تأجج المشاعر في صدرها .. ثم انتبهت لورقة داخل الغلاف الذي فضته فتذكرت أنه أخبرها أن بالداخل رسالة لها ... التقطتها و فضتها بيد مرتجفة من الانفعال و أخذت تقرأ ...
" أعتذر إليكِ ... سامحيني و اغفري لي جنوني ... لا تتعجبي و تندهشي .. فبالتأكيد مجنون هو من يحاول أن يصور جمالك بضربات فرشاة علي لوحة .. مجنون من يتخيل أنه يستطيع أن يعكس تلك النظرة البريئة الصافية العميقة المطلة من عينيك ... بريئة كابتسامة طفلة صغيرة في جمال الملائكة .. صافية كصفاء نهر عذب فيروزي اللون تخللته سلاسل الذهب من نور الشمس ... عميقة ، عميقة ... تخترقني و تتخللني و تحتلني فلا أعود أري سواهما و سوي تلك النظرة الجميلة البريئة الصافية العميقة ...
مجنون هو من يحسب أنه يستطيع أن يرسم تلك النعومة و الانسيابية في خصلات شعرك ... أو يعتقد أنه يمكن أن يحاكي استدارة خديك و تشرب بياضهما بفرحة الربيع و زهوره الحمراء ... اغفر لي جنوني و اساءتي و عقم موهبتي أمام شفتيك الصغيرتين .. و عجزألواني أمام الحياة الحرة فيهما ...
و لكن .... لعلي أتمني أن تُغتفر اساءتي بعميق ما يحمله قلبي من حب جارف .. وددت لو أقول لكي أحبك و لكن رغما عني .. تبدو الكلمة صغيرة ، صغيرة .. بلا قيمة و لا معني بجانب عظم ما أشعر به ... أنا أعشقك .. أعشق كل تفصيلة صغيرة في ملامح وجهك .. كل كلمة تخرج من فمك .. كل نفس يتهادي من صدرك .. فأنت لا تتنفسين كبقية البشر و إنما الأنفاس من رقتك تتهادي إليك .. أنت أجمل من وقعت عليه عيناي .. أنت نور حياتي ... أنت حياتي .. "
تلألأت عيناها بلمعة انفعال قوي و ظلت تحدق في الكلمات المكتوبة مبهورة الأنفاس ... يا إلهي .. والله إنه ليكفيني منك كلمة واحدة تسعدني .. يكفيني أنك أمضيت الساعات تخط ملامح وجهي .. يكفيني أنس صورتي بدفء أناملك التي طافت بها .. يكفيني أن تنظر إلي تلك النظرة الهائمة التي أعشقها ... تسللت بنظراتها من بين عينيها المبللتين بالدمع تتأمل المشاعر المتدفقة من كلماته .. تعشقني أنا .. أنا يا حبيبي ... هذه الكلمات لي أنا .. أحقا تراني هكذا ... لفت أصابعها بحنان حول الورقة و قربتها من وجهها .. طافت بأنفاسها محل أنفاسه التي لامست الورقة حين كتب .. ثم مستها بشفتيها في قبلة رقيقة لما كتبت يداه ... ليتك تعلم مدي حبي ، بل عشقي لك يا ياسين .. يا حبيبي...
رن هاتفها المحمول فأسرعت تلتقطه و قد أنار قلبها من اسمه الذي أنار الشاشة ، و بصوت رقيق خفيض، متهدج الأنفاس ..ردت :
- حبيبي ..
ظل صامتا لحظة و كأنه يحاول أن يستعيد صوته الذي ضاع في حنو صوتها عليه ... فقالت :
- ياسين ..
- نور عيون ياسين ..
أخذت نفسا لتسيطر علي رعشة صوتها ثم همست :
- أحبك ..
صمت مطلق إلا من حفيف أنفاسه فحسبته لم يسمعها فعادت تقول بصوت أعلي قليلا و أكثر شوقا و رقة :
- أحبك ..
ابتلع ريقه بصعوبة و تمتم مبتسما :
- نور ، أرجوكي .. لم أتمالك نفسي بعد من الأولي
ضحكت ضحكة رقيقة ، خجولة .. فأكمل :
- إن حياتي كلها لا تساوي لحظة واحدة أشعر فيها بمثل هذا الدفء و الحنو
- حبيبي .. لن تمضي لحظة أخري من حياتك إلا و سأحوطك فيها بكل هذا الدفء و الحنو
ليتها كانت معه الآن لضمها إلي صدره بكل ما في نفسه من اشتياق و حب و رقة .. ليتها كانت معه ، فالكلمات لا تكفي أبدا .. حرارة مشاعره تكاد تصهره .. و لكنه لا يريد أن يستسلم لهذا الاجتياح بالسكوت ، ففتح مجالا جديدا للكلام قائلا :
- أعجبتك هديتي ؟
نجحت محاولته في جذبها للحديث ، و قالت بفرحة واضحة :
- أجمل .. أجمل .. أجمل هدية في حياتي
لم أصدق أصلا أن هذه صورتي !
- حبيبتي أنت أجمل منها بكثير ..
قبل أن ترد عليه سمعت صوت جدها لازال مستيقظ ، فقالت بخجل و كأنها ضبطت :
- ياسين ، جدو مستيقظ .. سأدخل حجرتي ثم أكلمك
ثم عادت و استطردت :
- أم أنك ستنام ؟ أعلم أن لديك عمل غدا باكر ...
قالتها و هي تتمني لو يظل معها .. و لم يكن ليفوته ذلك .. فقال :
- لا حبيبتي ، أريد أن أتحدث معك قبل أن أنام .. أريد أن يكون صوتك آخر ما يسكني قبل أن ألتقيك في الحلم
ابتسمت في حياء و هي لا تدري بما ترد ، فأكمل :
- ادخلي حجرتك و أنا في انتظارك ..
- دقيقة واحدة حبيبي ..
ثم أقفلت معه و دخلت حجرتها ... التفت في سريرها و احتضنت تليفونها و طلبته و قلبها منتشي من فرط سعادتها و رقة عجيبة خدلت أطرافها .. و غابت عن الدنيا كلها حين أتاها صوته مجددا .
ظلا يتحدثان لساعات بدت كدقائق أو ثواني ، مرت كلحظة حلوة مختلسة من الزمن حتي غشيهما النعاس .. فأقفلا بعد مماطلة طويلة و رغبة في البقاء بجانب بعضهما حتي آخر دفقة صحو بنفسيهما .
في صباح اليوم التالي كان ياسين قد استيقظ باكرا للذهاب لعمله ، عينين بدا فيهما السهر و النعاس و إن غلب عليهما الرضا و السكينة ...
" يا ليت كل السهر كهذا السهر الجميل .. "
تمتم بها لنفسه في سعادة و هو يتأمل عينيه الذابلتين في المرآة بينما ينهي ربطة عنقه مستعدا للذهاب ، التقط مفاتيحه و تليفونه من علي الطاولة ، ثم تذكر أمرا .. قلب في تليفونه قليلا ثم طلب رقما .. و بعد هنيهة قال بابتسامة عريضة :
- آلو .. دودة حبيبتي .. صباح الخير
جاءته ضحكتها من علي الطرف الآخر قائلة :
- صباح الناس المشغولة عنا
- أبدا أبدا .. أنا أقدر ! وحشتيني والله
- أنت أكتر .. ما أخبارك ؟
- الحمد لله ، أريد أن أراك
ثم أردف بصوت ملأته رنة السعادة :
- أخبار جديدة و حصرية
ابتسمت و قالت بفضول :
- ممم ، تبدو أخبار جميلة .. و طبعا لن أدع الفضول يأكلني ، نتقابل اليوم ؟
- تمام ، الساعة الخامسة في النادي
- اتفقنا
أقفلت معه و ظلت صامتة قليلا ، ابتسامة تائهة علي شفتيها لا تستقر .. لا تدري ، أوحشها ... أوحشها أكثر مما يمكن أن يتخيل ، ليتها لم تخف عنه ذلك ، ليتها أخبرته كم طالت غيبته عنها و كم موحشة الدنيا دونه . استقرت ابتسامتها و اتسعت حين تذكرت .. ستراه اليوم .. ياااه ، أوحشتني يا ياسين ، لست أدري كيف عشت شهرا كاملا دون أن أري ملامحك الحبيبة .. تري ما الأخبار التي تريد أن تخبرني بها ، صوته بدا سعيدا ، ألا أسعد الله أيامه كلها .. و علام الاستعجال ، ساعات و أعرف .. ألقت نظرة أخيرة علي نفسها في المرآة قبل أن تنزل للذهاب لجامعتها و بعد أن مشت تجاه الباب ، عادت و تراجعت مرة أخري ... تأملت ما تلبسه .. بنطلون جينز و قميص مشمر الأكمام .. لا ، اليوم لا تريد أن تبدو مهندسة ، تريد أن تبدو حبيبة ...
فتحت دولابها و أخذت تتأمل قليلا الملابس الموضوعة .. نظرة مختلسة للساعة أنبئتها أن ميعاد أول محاضرة سيفوتها ، لا يهم ... ظلت واقفة لحظات ثم أخرجت جيب طويلة أنيقة سوداء و انتقت لها بلوزة رقيقة بيضاء بشريط ستان أسود التف حول خصرها فأبرز جمالها و تناسق تكوينها ، صففت شعرها و مرت بقلم كحل علي عينيها الواسعتين مظهرة جمالهما ... نظرة أخيرة علي نفسها ، ابتسمت في رضا عن جمالها ثم نزلت ذاهبة لكليتها لتضيع الساعات القليلة المتبقية علي لقائه .
و في الكلية ،أنهت بعض الأوراق المتعلقة بالبعثة التي اختيرت لها للسفر لانجلترا و اكمال سني دراستها هناك، لم تتخذ بعد قرارا بالسفر و لكن علي كل حال لا داعي لتضييع الفرصة بسبب بعض الأوراق ، لتنهها و تفكر علي مهلها ، لازال أمامها أسبوع قبل أن تقرر ... سـآخذ رأي ياسين اليوم .. ابتسمت في وهن ، هذا أسوأ ما في الأمر ، هل سأقدر علي فراقه طول مدة سفري .. كيف سأعيش هناك دونه .. دون ملامحه الحبيبة .. دون صوته الدافئ و نظرته الحنونة .. دون مزحاته الحلوة و اعتناؤه بي .. سرحت لحظات ....
و ما الفائدة ، ما الفائدة من البقاء و هو لا يشعر بي ... ؟ و كيف أجعله يشعر بي ؟! كيف أخبره بحبي ... كيف أنقل له عمق و قوة مشاعري تجاهه ... ربما أحاول أن ألمح له اليوم قليلا .. سأخبره أنه أوحشني جدا .. أن الحياة لا طعم لها بدونه .. و لا معني لوجودي إلا به .. يا ليتك تشعر بي يا ياسين .. يا ليتك ...
نظرت في ساعتها فوجدت أنه لم يبق علي معادهما إلا نصف ساعة ، أسرعت إلي سيارتها و انطلقت إليه بكل ما في نفسها من لهفة و اشتياق .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي