أنا حرة






كانت تمشي في الشارع محتضنة حقيبتها في نشوة ..

و صدي أغنية منير و صوته النوبي العذب لازال يتردد في أذنها بفرحة ...

"بس احلويت أوي يا سمارة .. لما اسمريت

لفيت الشارع و الحارة .. علي زي نقاوتك فين ما لقيت ..

يا .. يا سمارة"

ضحكت في سرها و هي تعلم أن منير غني هذه الأغنية في الحقيقة للبلح .. لكنها الآن تعلم جيدا أنها المقصودة بها ..

هي السمارة المقصودة ...

ظلت صباحات كثيرة تستمتع لهذه الأغنية من شرفة الجيران ..

بالتحديد من شرفة جارهم القريبة من منزلها منذ كان في العشرين من عمره و كانت لازالت في أولي سنواتها بالجامعة ..

كانت معرفتها به سطحية من زيارات الأعياد و المناسبات و ما شابه .. شاب لطيف أكبر منها بعامين .. حلو القسمات تبدو عليه الطيبة ..

لم تكن تعرف عنه الكثير حتي دار الحديث بينهما يوما حول الأغاني فوجدا نفسيهما بغير ترتيب مجتمعين علي حبهما للكينج .. ضحكا كثيرا يومها متفاجئين من حبهما لنفس الأغاني ذاتها .. و معرفتهما بأغاني قديمة مجهولة للكثيرين ..

لاتدري كيف اشتعل يومها وهج جديد في نفسها و لمحته في عينيه .. تقابلا بعدها عدة مرات في الشارع و في الجامعة ..

و في أحد الصباحات استيقظت علي صوت منير عالي من كاسيت قريب ..
"بس احلويت أوي يا سمارة .. لما اسمريت أوي يا سمارة "

فتحت شرفتها فوجدته يقف في الشرفة المقابلة مبتسما في مرح ..

ردت بابتسامة خجولة و عادت إلي الداخل .. ظل هو واقفا حتي رآها تخرج من باب العمارة .. و بعد أن ذهبت نزل وراءها و ذهب إلي كليتها و بمنتهي البساطة ما إن رآها حتي قال لها بابتسامة عريضة ..

"أنا هتجوزك علي فكرة"

خجلت و احمرت و ارتبكت و تلعثمت .. و من بين خجلها قالت له "انت مجنون"

"انتِ بس قولي آه و لو قلتي لاء هفضل وراكي لحد متقولي آه"

ضحكت و لم تأخذ كلامه محمل الجد .. و إن كان في قلبها فرحت .. فرحت فعلا فرحة لم تشعر بها أبدا من قبل ..

و في اليوم التالي استيقظت علي صوت منير الجميل ينساب مجددا ..

"لفيت الشارع و الحارة .. علي زي نقاوتك فين ما لقيت ..

يا .. يا سمارة"

لم تخرج إلي الشرفة هذه المرة و إنما راقبته من خلف الستار و هي تضحك في سرها .. و ذهبت إلي كليتها فوجدته بانتظارها مجددا ..

" انت تاني!"
ضحك قائلا ..
"قولي موافقة بقي يا سمارة"
حاولت أن تخفي ابتسامتها و هي تقول في خفوت ..
"هفكر"

 يوما بعد يوم .. ظل منير يصاحبها في استيقاظها حتي صارت الأغنية طقسا مقدسا لا يبتهج يومها دونه ..

و أخيرا .. وافقت ..

مرت عليهما سنتان و منير صلة الوصل بينهما بأغنيته الصباحية المبهجة حتي تخرّج حبيبها أخيرا و وجد عمل مناسب في شركة صغيرة ..

اتسعت ابتسامة علي شفتيها .. اليوم .. اليوم سيكلّم والدها في التليفون ..

كانت وصلت البيت و هي تدندن في سعادة بصوت خافت " بس احلويت أوي يا سمارة لما اسمريت"

دخلت بمفتاحها تخفي ابتسامتها بقناع من الجد لئلا تفضحها سعادتها قبل ان يعلنوها هم بخبر تقدمه ..

لكن في الحقيقة البيت كان هادئا جدا .. لا أثر لأي خبر من أي نوع ..

جلسوا إلي مائدة الغداء بنفس الأحاديث المعتادة .. لا جديد .. معقولة لم يكّلم والدها ؟؟  تري ماذا حدث .. ؟؟

انطفأت فرحتها و لم تأكل شيئا ..

لم يحدث أي شئ في باقي اليوم و هي تتحرق لمعرفة ماذا حدث ..

ظلت تتقلب طوال الليل في سهاد مؤرق .. و استيقظت في اليوم التالي بهالات سوداء حول عينيها و صمت مطبق لا تسمع فيه حسا لأغنية منير ..

ارتدت ملابسها في إحباط و ذهبت إلي كليتها ..

و هناك وجدته في انتظارها .. و عرفت كل شئ ..

لقد كلّم والدها بالفعل .. لكنه ببساطة رفضه .. رفضه دون أن يقابله .. و السبب كلمات متفرقة من والدها الدكتور عن المركز الاجتماعي و انت زي ابني لكن انا بدور لبنتي علي عريس يقدر بأمن لها مستقبلها و يكون من وسطنا الاجتماعي و الوظيفي و انت لسه صغير .. مستعجل علي إيه و ضحكة خرقاء .. بمنتهي الهدوء رفض دون أن يخبرها حتي ..!!

سكتت تماما كأن علي رأسها الطير فعلا .. لم تستطع أن تصدق أن أباها فعل ذلك حقا .. هكذا بمنتهي البساطة يقرر و ينفذ قراره في موضوع لا يتعلق بأي شخص سواها ...

شعرت بغضب و احباط شديد .. أفاقت علي صوت حبيبها و هو يقول بعد تردد و سكوت ..

"أنا .. متأكد إني بحبك .. انت انسانة رائعة .. انت فعلا نصي التاني اللي بيكملني و معنديش استعداد أكمل من غيره ..

خليني أكلم باباكي تاني .."

شعرت بصدق كلماته يفتح أبواب قلبها علي آخره و ايقنت أنه حبها الأول و الأخير ..

أومأت برأسها موافقة ..

كلّمه مرة ثانية و ثالثة .. دون فائدة .. فلم تملك حل غير أن قالت ..

"أنا هكلّمه في الموضوع"

عادت إلي المنزل بهّم لا تدري لماذا كُتب عليها أن تحمله .. هم ثقيل لا تدري فعلا لماذا يجب أن تتحمله .. كان يجب الآن ان تكون عروسة سعيدة و مبتهجة و الكل يهنأها .. تري هل كُتب عليها أن تحارب في أبسط حقوقها .. في اختيار زوجها .. !!

وصلت المنزل و انتظرت حتي المساء و فاتحت أباها في الموضوع بهدوء..

و لدهشتها لم يناقشها حتي .. و إنما انفعل كثيرا من أن جارها كلمها من الأساس .. و بنبرة سلطوية متكبرة اخبرها ان الموضوع انتهي و أنه شخص غير مناسب لها ..

ارتفع حاجبيها في انزعاج و هي تقول .. أنا من سأتزوج .. و أنا من أحدد إذا كان مناسب أم لا ..

ازداد انفعاله أكثر و هو يكيل لها السباب لأنها تتحدي قراره و تخالف أمره ... و عدم تصديقه قلة أدبها و جرأتها ..

لم تنفعل .. في الحقيقة كانت دهشتها أكبر من أي غضب مما دفعها لتقول ببساطة .. أنا حرة .. قرار الزواج قرار مصيري اقبل فيه النصيحة و لا أقبل فيه التحكم ..

استشاط غضبا .. و هدد و توعد .. فانفعلت قائلة .. أنا حرة .. دا حقي إني أختار زوجي ..

و فجأة وجدت كفه يهوي علي وجهها و هو يصرخ فيها أنها لم تعرف التربية و أنها تتحداه و خسارة فيها سنين عمره التي اضاعها في تربيتها و أنها لن تتزوج هذا الشخص إلا علي جثته ..

وجدت أمها فجأة تتدخل و تحول بينها و بينه و تدفعها للذهاب إلي حجرتها ..

لم تنطق بكلمة و خدها المحمر من كف يده ينطق بالغضب و الذهول ..

دخلت غرفتها و اقفلت الباب بالمفتاح ..

جلست علي سريرها ببطء المذهولين .. في رأسها مزيج غريب من صراخ والدها الذي لازال مستمرا بالخارج و صدي بعيد من اغنية منير ..

 بقايا فرحتها تتساقط داخل الهوة العميقة التي فجرها تحكم والدها و ردة فعله ..

لم تستطع تصدق .. لماذا .. و كيف انكسرت فرحتها .. و انكسر قلبها ..

لماذا رفض .. و كيف يرفض و هي من ستتزوج .. هي من تقرر !!

أغمضت عينيها .. و لازالت في صدمة حقيقية ..

أحقا حدث كل هذا لأنها قررت أن تختار من تحب ..
لأنها قالت .. أنا حرة .. أتزوج من أشاء !

أكثر من حياة





ليس أجمل من إجازة هادئة و كتاب مشوق ..
فالشئ الاكثر روعة بشأن الكتب أنها تعطيك الفرصة لتعيش أكثر من حياة ..
لتصادق ابطال لا تعرفهم بطريقة حميمية ..
تصاحبهم في اشد لحظات هدوئهم و اضطرابهم ..
تسافر و تزور أماكن لم ترها من قبل .. و ربما لن تراها ابدا ..
تنبهر بجمالها .. و تصغي لأصوات العصافير فيها ..
تستدفئ مع أبطالها أمام المدفئة في الشتاء .. أو تتحرك معهم في الحديقة بحثا عن نسمة صيفية في إحدي الليالي ..
تترقب اللحظة التي ينطق فيها العاشق بكلمة "أحبك" بعد سهاد ليالي طويلة لم تنمها معه و هو يفكر أين و متي و كيف سيقولها ..
أو تحبس أنفاسك بينما الفتاة الجميلة الهادئة تتمرد علي كل ما خضعت له طوال طفولتها و حياتها التي عايشتها معها ..
و تدمع عيناك مع البطلة الحزينة الجالسة وحدها في غرفة مقفلة ليس معها سواك دون أن تدري هي أنها مجرد كلمات علي ورق .. و أنك تصغي لأحزانها بكل هدوء ..
و كأنك أمام مائدة شهية من كل الأزمنة و الأمكنة .. تنتقي منها ما يحلو لك لتهرب من حياتك إليها ..
و كل هذا السحر دون أن تغادر مقعدك !