الفصل الثاني: العائلة (2)






سألت فاطمة (عن نور):
- و أين أباها و أمها ؟
التفتت سعدية إلي فاطمة في حدة و قالت بنبرة محذرة :
- أنا لا أحب الكلام الكثير ، لا تتدخلي فيما لا يعنيك
فنظرت إليها فاطمة نظرة استعطاف مليئة بالفضول فتنهدت سعدية ثم قالت :
- حسنا .... و لكن ما سأقوله الآن لن أكرره مرة أخري و لا تتحدثي فيه مع أحد ..... لا أحد يحب أن يذكر هذا الموضوع
 فردت فاطمة في سرعة :
-       طبعاً طبعاً
ساد الصمت لحظات و كأن سعدية تقلب الأمر في رأسها ثم قالت :
- الحاج عبد الرحمن صاحب هذا البيت - ماشاء الله – رجل غني و يمتلك فدادين كثيرة ورثها عن أبوه و ربنا أعطاه ثلاثة أولاد و بنت واحدة و دائما الناس تتحاكي بكرمه و صلاحه و حبه للفقراء .... و لكن ، و كأن أولاد الحرام حسدوه ....  في يوم شؤم ، اثنين من أولاده كانوا مسافرين مع أسرهم للإسكندرية و حصلت لهم حادثة كبيرة في الطريق 
 ثم عضت شفتيها في حسرة و أكملت :
- مات في هذه الحادثة والدا الست نور و أبو الأستاذ باسم و أخ صغير له لم يكن أكمل ستة شهور
تنهدت ثم أردفت :
- يعني لم ينج منها إلا الست نور و هي لم تتعد عشر سنوات و الأستاذ باسم و أمه
ساد الصمت قليلاً و بدا علي فاطمة التأثر فعادت سعدية للهجتها المحذرة قائلة :
- إياكي أن تفتحي هذا الموضوع مع أحد
- طبعاً طبعاً ، أنا لست بلهاء
ساد الصمت مجدداً و انشغلت كلا منهما فيما تفعله و لكن فاطمة لم تستطع إغلاق فمها طويلا فقد كانت تعشق الكلام  فقالت :
- و من سيجئ أيضاً اليوم ؟
نظرت إليها سعدية نظرة مستنكرة ثم قالت و كأنها تريد أن تنهي الكلام :
- الحاج عبد الرحمن سيأتي بعد المغرب مع الأستاذ باسم و أمه، و الست رقية بنته و زوجها و أولادها " ياسين" و أحمد لا شك أنهم قاربوا الوصول
و ما إن فتحت فاطمة فمها لترد عليها حتي سمعتا صوت جلبة بالخارج فعلمتا أنهم قد وصلوا فقالت سعدية :
- اذهبي و احملي الحقائب لغرفهم ثم تعالي بسرعة لنكمل إعداد الغداء .
في الصباح التالي ، كانت الساعة قرابة العاشرة صباحاً و سعدية و فاطمة قد انهمكتا في تنظيف المنزل و إعداد الفطور لأهل المنزل الذين بدأوا في الاستيقاظ . كانت نور أول من نزل إلي حجرة الطعام ثم بدأ الآخرين في التوافد الواحد تلو الآخر حتي جاء الجد و قاموا لتناول الطعام في جو يسوده المرح و السعادة باجتماع شملهم في مناسبة سعيدة .
و بعد الانتهاء من الفطور ، ذهب الجد مع باسم إلي الأرض و بينما انتقل الكبار للصالة ، فضلت نور الخروج إلي حديقة البيت التي تمتد حتي ضفاف ترعة صغيرة اصطفت علي جانبيها أشجار طويلة مالت حتي لامست فروعها سطح الماء فبدت و كأنها انحنت لتشرب وذهب معها عمر ، بينما فضل ياسين أن يجلس وحده تحت تكعيبة العنب لإنهاء صورة كان يرسمها .
جلس عمر و نور تحت ظل شجرة توت كبيرة و تناول عمر حصوات أخذ يقذفها في الماء و ساد الصمت بينهما قليلاً فقالت نور فيمحاولة لخلق حديث :
- متي ستبدأ الامتحانات ؟
- يعني .... حوالي شهر و نصف تقريباً
سكتت قليلاً ثم قالت :
- و أين تنوي أن تعمل إن شاء الله بعد التخرج ؟
لم يجب مباشرة و إنما شرد بصره قليلاً ثم قال :
- محمود زوج ثريا أختي أخبرني أن هناك فرصة جيدة ان أعمل في الشركة التي يعمل هو بها في دبي
نظرت إليه نور في تعجب و قالت :
- لكن ... أنت تعرف أن جدو كان يريدك أن تعمل معه بعد التخرج لتدير حسابات الشركة !
 تنهد في ضيق و قال :
- أعرف .... لكن بصراحة ذلك لا يتناسب مع طموحاتي و أحلامي
أرادت أن تمسح سحابة الضيق التي غامت علي وجهه ، فحاولت أن تجاريه في أحلامه و هي تقول :
- حسنا ، إن شاء الله إن جاءك هذا العمل ، هل تنوي أن تقيم مع ثريا ؟
- لا ، الشركة ستوفر لي شقة
عقدت حاجبيها في استنكار و قالت :
- هل ستعيش وحدك ؟
فابتسم ابتسامة غامضة و قال :
- لن أكون وحدي
تعجبت قائلة :
- من سيكون معك مادمت لن تكون وحيدا ؟
اتسعت ابتسامته و هو يقول:
- لن اقول لكي الآن و لكن قريبا جدا ستعرفين ...
ساد الصمت بينهما و شعرت نور بقلبها يخفق بقوة و علت وجهها حمرة خفيفة و هي تحاول معرفة مغزي كلامه و تتمني من الله أن يكون ذلك تلميحاً منه  برغبته في الارتباط بها .
و بينما كل من نور و عمر غارق في أفكاره ، جلس ياسين علي مسافة غير بعيدة عنهما تحت تكعيبة العنب و قد استغرقه تماما ما يقوم به ... لطالما كان الرسم هوايته و موهبته ، كان يرسم صورة لفتاة تملك وجهاً جميلاً ، رقيقاً كأنما صاغته الملائكة من نور ... كان يرسم  " نور " و قد كتب علي طرف اللوحة
  " أنقي من الفجر الضحوك            و قد أعرت الفجر خدك
     و أرق من طبع النسيم                فهل خلعت عليه بردك "
بيتان سمعهما يوماً في أغنية قديمة فأعجباه و شعر أنهما ينطبقان علي نور ..... حبيبته .
حبيبته و ساكنة قلبه ، النور الذي يطرد الوحشة و الظلماء من صدره ... قطرات الندي التي ترطب روحه  و كأنها منسابة انسياباً لطيفاً داخل كل ذرة من ذرات كيانه و هي أغلي أمنية تمناها يوما ... و لكن تمناها في صمت ... في سكون .
أخفاها بين حنايا صدره و خبأها بين الضلوع و لكن ظل يشعر بها في كل ابتسامة ترتسم علي شفتيه أو نظرة تطل بها عينيه أو همسة تتسلل من بين شفاهه ناطقة باسمها كلما استبد به الشوق لها .
وعلي الرغم من تلك المشاعر التي يجيش بها قلبه لم ينقل لها يوما ما يكشف عما أخفي ... لعل ذلك لإحساسه أنها تميل لعمر و خوفه من أذي شديد قد يصيبه في مقتل إذا ما صدته يوما ،  لذلك رضي بتلك اللذة المختلسة التي يستشعرها كلما رآها أو اشتم عطر أنفاسها  و اكتفي بدفقات السعادة التي تضئ قلبه كلما ابتسمت له تلك الابتسامة الساحرة التي تخلب لبه أو نظرت له تلك النظرة الشقية التي تذيب قلبه .
كان يرقب حركاتها و سكناتها و يتأملها طويلا من حيث لا تراه حتي سكنت صورتها في مخيلته فبدأ يرسمها لكي تكون أمامه دائما في صحوه كما طيفها مصاحبا له في أحلامه .... انتبه من خواطره علي خطوات رقيقة تقترب بخفة فسارع بإخفاء ما كان في يده و شعر برجفة الحب تجتاح جسده حينما عرف قلبه صاحبة الخطوات من رقة وقعها علي الأرض حتي دون أن ينظر فارتسمت علي شفتيه ابتسامة السعادة ة و استدار إليها فقالت بابتسامة حلوة :
- ياسين ، الغداء جاهز
أومأ برأسه في خفة و كأنه خاف إن حرك لسانه أن تسقط منه قطرات السعادة التي ارتشفها من حلاوة رؤيتها ثم قام يمشي إلي جانبها و قلبه يخفق بقوة و كأنه مع كل خفقة يخبرها بحبه .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي