كرسي مريح






غاص في كرسيه المريح القريب من النافذة ...
و عيناه ساهمتان في الفضاء المطل منها ...
و كأنما يعكس فضاء نفسه و فراغها ...
هبة هواء باردة لسعت أطرافه ...
مد يده ليغلق الزجاج ..
فعلق بصره بيده المغضنة الذابلة ...
سنوات عمره الستون محفورة تجاربها في تقاطعات جلده الشاحب ...
و كأنما العمر لحظة ...
كأنما كل الأحلام و الآمال . و حيوية الشباب .. و اللهاث خلف لقمة العيش ..
كأنما كان ذاك لحظة ..
نصف ابتسامة ساخرة ..
كأنه أنفق عمره كله لقاء هذه الجلسة المريحة بجانب النافذة ...
وحيدا ..
حاول أن يهرب من وحدته فتناول رواية جانبه ...
انهمك في مشاعر أبطالها و استغرق فيها ..
متجاهلا ذلك الشعور الملح السخيف ..
ما فائدة المتعة حين لا تجد من يشاركك إياها ...
طرقت مسامعه ضحكات عالية مختلطة بسباب و شتيمة ...
ابتسم في حنان و قد عرف فيه صوت ابنه و أصدقائه ...
ألقي عليهم نظرة من النافذة و هو يراقب حيوية الشباب فيهم و كأنما يود لو يسرق منها قبسا ..
يود لو كان مقعده الآن خالي و كان واقفا يتلقي لسعات البرد معهم بصدر مفتوح .. بلا وحدة و لا هموم ..
رآهم ينصرفون و ابنه يدخل العمارة ..
مني نفسه بمزاج ولده الرائق .. لو فقط يعطيه بعضا منه ..
فتح الباب بمفتاحه ... لم ينتبه لأباه الجالس في الصالة ..
فناداه ..
مشي ناحيته متثاقلا ..
فلما رآه قال بإبتسامة تحمل كل الرجاء ..
" ألا تأتي نشرب كوبا شاي معا"
فرد ابنه بابتسامة متعبة ..
" لا أستطيع والله يا أبي ... من الصبح و أنا في الكلية .. لا أستطيع أن أرفع رأسي حتي "
لم يرد عليه ..
فقبله ابنه قائلا ..
" تصبح علي خير "
ثم انصرف ...
راقب شبابه وحيويته ينسحبان معه ...
و بأسي أمسك روايته مجددا و هو يفكر ..
كان يرغب فقط ...
في بعضا منه ..
له ..

الفرصة الأخيرة






راقبها من بعيد و هي تجتاز القاعة بأناقة و كبرياء ملكة ...
و فستانها الأبيض ينسحب علي الأرضية وراءها و كأنما يترك نتفا من ثلج ...
فيها شئ يذكره بالشتاء ...
نفث دخان سيجارته و أخذ يراقبها من بين الدخان المتصاعد في متعة ..
متعة سيجارته المشتعلة و احتمالية قصة جديدة تشوق لها قلمه ...
عنق مرمري يزين كتفيها الانسيابين في أنوثة تكشف عن نفسها بلا موارابة ...
جلست علي مقربة منه ...
كان بعيدا بما يكفي لئلا تلاحظه ...
و قريبا بما يكفي ليلاحظ تفاصيلها ...
في عينيها شئ يثير الشجن ...
و انحناءاتها تشي بصقيع  فراغ عاطفي يبحث عن دفء الاحتواء ...
بأصابعها الطويلة الرقيقة تناولت كأس العصير بهدوء يخدع أي عين ...
إلا عينيه الخبيرة التي التقطت ارتجافة شملت أطرافها لثانية ...
أخذ نفسا أعمق من سيجارته التي التصقت بأصابعه ...
و كأنما تترقب مع صاحبها الحركة التالية منها ...
ظلت ساكنة مصوبة بصرها تجاه الباب ...
و مع كل انفراجة ضئيلة تشرئب في أمل ...
ثم تعود لتستكين في خيبة ...
ظل يرقب معها القادمين و يخمن أيهم تنتظره تلك الفاتنة ...
ثم رنة خافتة من موبايلها الملقي علي الطاولة ...
تحرك بمقعده قليلا لكي يسمع الحوار في فضول بلغ مبلغه ...
كانت تكلم فتاة أخري ...
صديقتها ربما ... أو أختها ... أيا كانت يبدو من الكلمات أنها تلك التي تحفظ سرها ...
" لم يأتي بعد"
صمت قصير ..
" هذه المرة وعدني أنه لن يخيب أملي "
انزعاج في ارتفاعة حاجبها ... ثم حدة في صوتها ..
" لا .. هذه هي الفرصة الأخيرة "
بصوت خافت سمع بصعوبة ... " كفاني خيبات أمل "
تنهيدة من شفتيها الرقيقتين ..
" سيأتي هذه المرة .. لقد وعدني "
صمت قصير ثم أقفلت ...
ظل معها يرقب قدومه و كأنما من فرط تأملها صار يشاركها الانتظار ...
نصف ساعة ..
ساعة ...
و هي علي ما هي عليه دون حراك ...
و هدوء قاتل يسود ملامحها ...
ثم تناولت حقيبتها في النهاية و غادرت ...
بنتفات الثلج يتركها ثوبها الأبيض ...
كأنما الشتاء اتخذ من روحها موطنا ..
احترقت سيجارته الخامسة حتي النفس الأخير ...
استعد للرحيل ...
ثم شاهد ...
فتي مسرع يسأل الجرسون في جزع عن طاولتها ...
ثم تحول الجزع إلي أحزان محفورة علي جبهته و هو يتمتم ..
قارئا شفتيه ..
كانت الفرصة الأخيرة ..
تنهد في أسي و هو يشاهده يرحل  ..
لماذا نترك الخيبات تتراكم دائما حتي الفرصة الأخيرة

ليتها كانت لا تبصر




شارع مزدحم ، ضوضاء مزعجة ، كلاكسات لا تتوقف ...
 بخطوات سريعة أقرب للعدو تحاول أن تصل إلي آخر الرصيف لتدخل في شارع جانبي .....
ضربة تلقتها علي كتفها من آخر مسرع في الاتجاه المعاكس ، شتيمة قذرة تنهال من فمه عليها و علي عماها ....
" لعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثر ما خرج من فمه كذبا في وصفها "
 هكذا فكرت في نفسها ...
 ليتها كانت عمياء لا تبصر ، إن بلواها في الحياة أنها بصيرة بكل ما يجري حولها ...
أكملت طريقها و نهاية الرصيف تبدو بعيدة ... بعيدة و كأنها لن تصل أبدا ....
استوقفها طفل لا يجاوز الثامنة من عمره ، يغطي وجهه الأسمر النحيل أوساخ التراب ... لا تدري .. أم أوساخ الحياة ...
 و ندبة  بطول خده الصغير الجميل تشق قلبها و تترك بجانب الجروح الكثيرة جرحا جديدا لن يندمل كسابقيه ...
 بعينين ذاهلتين مليئتين بالدموع ظلت تحدق فيه و هو يتحدث بسرعة أمامها ، مادا يده للأمام للحصول علي ما عسي أن تجود به عليه ...
 لم تتحرك و ظلت ثابتة مكانها و كأنها فجأة وجدت نفسها في مواجهة مع نفسها ....
 أتغوص بيدها في عمق الجرح و تعطيه كما يعطيه الآخرين ..
 و كأنها فجأة اكتشفت أن ليس بإمكانها أن تمحو شقاءه ...
حتي و لو استطاعت أن تمسك هذه اللحظة من الزمن فتسعده ، فإن جذور الألم ستظل ضاربة في الأعماق بلا نهاية ...
فيه .. و في كل من يشبهه .. .
كان قد مضي من أمامها قبل زمن و لعله حسبها مجنونة ، و هي ما زالت زاهلة مكانها ...
انتبهت لرحيل عينيه الواسعتين من أمام ناظريها ، فعادت تتحرك بخطوات هزيلة ...
 و كأنها تجر قيود الشقاء .. .
قاربت من نهاية الرصيف لتدخل الشارع الجانبي الهادئ ...
عيناها اللامعتان بالدموع تحولتا للون أحمر قاني حتي تحسب أنهما تكادا تنفجرا ، و لكنها الآن أضعف من أن تثور ...
يداها تتشبثان بالسور بجانبها و هي تكاد الآن تزحف لتخرج بنفسها من ضوضاء الناس و صخبهم إلي الشارع الجانبي الهادئ ...
ليت احساسها كان متجسدا أمامها الآن لقتلته فورا و بلا تردد ... ما أشقاها باحساسها بشقاء الناس ...
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأنك توحدت مع الكون حولك ، و امتزجت بكل ذرة ألم سابحة في الفضاء....
كانت قد دخلت الشارع الجانبي الخالي من الناس و مشت خطوات فيه ...
 لا تدري ...
 أكانت من الناس .. أم من نفسها .. تهرب ...
للأسف هدوء الشارع و خلوه من الناس لم يسكت صرخات الألم الشقية في كيانها ....
باتت تشعر و كأنها جرح كبير مفتوح لكل سمة شقاء تلمحها علي أي وجه ، و كأنها تشعر بآلام الناس أكثر منهم ...
 و كأن كل تقطيبة جبين لكل شخص كان في الشارع المزدحم تحكي لها حكايات شقاءه و تفتح جراحا جديدة في نفسها ...
و كأن مجرد وقوف الطفل أمامها ، رأت فيه الطفولة السعيدة التي كان يستحقها و لم توجد ...
الفراش الوثير الذي لم يطله جسده اللين ، بل تكسر بدلا منه علي حجارة الرصيف القاسية ...
و نهش البرد القارص جسده الغض و كل في بيته دافئ ... .
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأن رهافة الحس تكاد تقتلك و أنت لا تزال حيّ ... .
كل الناس تتأثر للحظات ، ثم تنسي الألم و تكمل حياتها لاهية عابثة ، إلا هي ... .
أحياناً ، لا تدري أقسوة الحياة و انشغال الناس عن بعضهم سخط الله أم نعمته عليهم ...
لا تدري ، أاحساسها بشقاء الناس حولها و رغبتها العارمة في تخفيف آلامهم و الحنو عليها و تطييبها ...
تلك الرغبة التي تنقلب عجزا أمام قسوة الحياة و ظلمها ...
 أهي رهافة حس و احساس بالناس يُحمد ، أم ابتلاء عليها أن تتعايش معه في كل لحظة ...
 ليتها كانت جامدة الحس مثلهم ..
لا تشعر إلا بنفسها ..
 و لا تري إلا حالها ..
ليتها كانت لا تبصر