في القلب






جلست علي طاولة صغيرة في ركن قاعة الاستقبال في فندق شهير و أخذت تكتب في كراسة صغيرة في يدها عن حفل الزفاف الذي حضرته منذ قليل ... كلمتين عن الحفل الرائع ،فستان العروسة الوهمي ، ابتسامتها الساحرة و فرحة المدعوين و ستلحق بعدد بعد غد من مجلة " أخبار المجتمع " التي تعمل بها .

رفعت رأسها قليلاً عما تكتب و هي تراقب العروسين و هما يستقلان المصعد و كأنها تحاول أن تستوحي منهما كلمات تنهي بها ما تكتب ... ابتسمت ابتسامة لطيفة و هي تحاول أن تتخيل شعورهما الآن و سعادتهما و هي تراقب وجه العروس الهادئ الرقيق .

قطع عليها أفكارها صوت غناء عالي و رأت شاب يتمايل راقصا علي وقع أغنية صاخبة يغنيها بصوت مزعج و هو يضحك بصوت عال .. أسرع إليه أمن المكان طالبا منه الصمت أو الخروج فلم يرد عليه و أكمل ضحكه الهستيري في فرحة صاخبة و كأنه لا يهتم سوي بما يشعر به من مشاعر عارمة في هذه اللحظة و لا شئ غير ذلك .

 بدأ رجل الأمن يجذبه من يده و هو لا يستطيع أن يقاوم بسبب ضحكه ، ثم أخذ يحاول السيطرة علي نفسه و التقاط أنفاسه و هو يترجي رجل الأمن الصبر عليه ، ثم نظر فجأة إليها و قد سكتت ضحكاته ثم سألها في أدب غريب لا يعكس تصرفه منذ لحظة ...

" أنت الصحفية التي تكتب عن الزفاف ، أليس كذلك ؟ "

أومأت برأسها ايجابا ، حاول أن يجلس علي الكرسي الموجود أمامها فمنعه اعتراض رجل الأمن فالتفت إليها في رجاء حار و قال بتوسل :
" هلا تأتين معي للخارج .. أرجوكِ .. أرجوكِ "

اشتعل فضولها و أشفقت علي توسله فقامت و خرجت معه إلي الحديقة و جلسا علي طاولة في جانبها ، فقال لها :
" أتسمحين لي أن أمليك ما ستكتبين عن العروس .. "

و قبل أن ترد أخذ يقول " كانت العروس ترفل في ثوب زفافها و كأنها ملاك جميل ... أرجوك اكتبي..."
 ظلت ساهمة لحظة ثم أخذت تكتب و هو يكمل ...

 " ملاك جميل اكتسي بثوب بشري لأن الملائكة لا يعيشون بيننا بصورتهم ... ملامح رقيقة ذات تناسق بديع و روح نقيه أطلت من عينيها الساحرتين ... ابتسامتها الخلابة التي تأسر الألباب .. نعومة حركاتها و انسيابيتها أسرت الحضور .. فجمالها و روحها العذبة أشاعا جو غريب من السحر في المكان حتي ليحسب الرائي أن كل ما مست يداها أو وقعت عليه عيناها يكاد ينطق مفتتنا بها ... "

" أنت تحبها "

قالتها فجأة قبل أن تستطيع أن توقفها و ندمت حين جمدت نظراته في ألم ، ثم بلا مقدمات انفجر في نوبة ضحك هستيرية لنحو دقيقة حتي دمعت عيناه و قال بصوت لاهث الأنفاس " أحبها !!!! أفكرتي يوماً أنك تحبين يدك أو أصابعك .. عينيك أو ابتسامتك .. عقلك .. قلبك .. " 
و بصوت أكثر تهدجاً " روحك .. نفسك"
" أنا .. لا أحبها .. أنا لا أدري ما الحب و لا أعرف العشق .. و لكني أعرفها هي .. أعرفها و كأنها أنا أو كأني هي .. لا أعرف الحب و لا الجمال .. لا السعادة و لا التفاؤل .. لا الضحك و لا الأمل .. لا الحزن أو القسوة أو الألم ... لا أعرف إلا هي .. هي كل شئ .. هي هي ... هي أنا .. "

 بدا كطفل حائر يحاول تعلم الكلمات ليعبر عن نفسه و كأنه يبحث عن معني لا وجود له في قواميس اللغات .

" لماذا لم تتزوجا ؟ "

قالتها بصوت خافت دون أن تدري أنها بهمسها أشعلت ناراً في صدره و فجرت براكين الألم التي كان يحاول مداراتها بضحكاته التي انطلقت في جنون و كلماته تكاد تنقلب صرخات معذبة ...

"لم أتزوجها لأني كما قالوا أحبها .. أحبها .. كيف تحبها قبل ان تتزوجها .. بل كيف تتجرأ و تعرفها .. أبعدوها عني و أبعدوني عنها لأني ارتكبت الخطيئة الكبري و الفُجر الاعظم .. أحببتها .. ويلك من فاسق زنديق .. بنات الناس لا يعرفن و لا يجب أن يعرفن هذا الكلام الفارغ وانحراف الأخلاق ...
أنت أفسدت أخلاقها .. لن تتزوجها ... بحُبك لها حُرمت عليك حرمة مؤبدة .. بخطيئتك لن تمسها و ستكون لغيرك "

أصبح يدور الآن في المكان كالمجنون ...
" حبسوها .. ضربوها .. أقفلوا عليها الابواب و سدوا النوافذ و أنا أجن في الخارج .. أكاد أموت و أنا أتخيل دموعها ... قلبي يتفجر فيه ألمها و أوصالي تتقطع من أوجاعها ... وقفت الدنيا في وجهي و حالت بيننا .. سحقاً للمجتمع و التقاليد و الناس الذين أخذوا روحي مني "

انهار علي الأرض و دموعه كالحمم و قد أخفي وجهه بين كفية و كأنه يهرب من صورة بشعة في خياله و بصوت لاهث من الانفعال ...
" أخذوا روحي مني .. أخذوا روحي مني .. أخذوها لغيري .. غيري الآن مع حبيبتي ... حبيبتي .. ينظر إلي جمالها .. يتأمل عينيها .. انفها الدقيق .. وجنتيها .. شفتيها ... "

شعرت بأنفاسه تكاد تنقطع و هو يكمل ...
" يتلمس بيده خصلات شعرها و يمد يده إليها و يضمها إلي صدره ... هي وحدها الآن .. وحدها .. من دوني ... ليس هناك من يدفع عنها يده أو يحول بينها و بينه .. لا أحد سواي يسمع صرخات قلبها المعذب المستغيث .. لا احد يري سوي قسمات وجهها الهادئة .. أنا وحدي أشعر بها .. بألمها و شقاءها و عذابها .. أنا أموت في كل لحظة ألف مرة .. ألف مرة "

أخذ يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة ثم وقع علي الأرض ، نهضت فزعة إليه ثم أسرعت تستنجد برجل الأمن في الداخل ... وضعت يدها علي فمها و كأنها تمنع نفسها من الصراخ و عيناها تبكي دون أن تدري و هي تراهم يحملونه مسرعين إلي حجرة صغيرة و طبيب الفندق يدخل وراءهم .. كاد قلبها يتوقف حتي خرج إليها بعد قليل و قال :
- إنا لله و إنا إليه راجعون .. يبدو أنه كان مصاب بالقلب و انفعل انفعالا شديدا لم يتحمله قلبه ... توفي
اتسعت عيناها في ذهول و وجدت نفسها تتمتم في همس متقطع :
- بل كان مصاب في القلب ... بل كان مصاب .. في القلب 

"مستوحاة من قصة حقيقية"

عبد الكريم






مشي مطأطا الرأس ، معقود الحاجبين و سنوات عمره الستون رسمت تجاعيدها الحزينة في ثنايا وجهه... نظر إلي النيل المتشح بسواد الليل فلا يكاد يبين منه شئ و كأن ظلمته انتقلت إلي صدره فأطبقت عليه واختنق بها ، حاول أن يأخذ نفسا عميقا عله يخفف من غلواء الحزن بنفسه فلم يزدد بعمق تنفسه إلا هما علي همه و سنوات عمره تمضي أمام عينيه و كأنها كانت لحظة و مضت .... .
زوجته و رفيقة دربه رحلت و تركته وحيدا في الدنيا .. بلا يد تحنو عليه أو صدر يضمه و يفضي إليه بما أهمه ..
 و أولاده .. كل شق طريقه في الحياة و انشغل بأمره و قلما يتذكرون هذا الذي كان لهم أبا حانيا ، عمل كل ما بوسعه ليسعدهم و يوفر لهم ما يحتاجونه حتي إذا ما أقبلت الدنيا عليهم أداروا ظهورهم إليه .... حتي أصدقائه معظمهم رحلوا ... 
توقف لحظة عن المشي و كأنه يسأل نفسه .. و أنت ما يبقيك أيها العجوز الشقي .. 
ازدادت تقطيبة جبينه حدة و كأنه يفكر بالفعل في انهاء حياته ... لمح بطرف عينه سلما يفضي إلي النيل مباشرة ، فمشي نحوه و نزل السلم و جلس علي صخرة تمس أطرافها المياه .
وضع يده علي جبينه و أغلق عينيه و كأنه يحاول أن يغمضها عن سواد الأفكار التي تطوف بخاطره .. فجأة شعر بيد تربت علي كتفه ، التفت و قد سرت في جسده قشعريرة ، فرأي شاب متوسط الطول أقرب إلي النحول غامت الظلمة علي معظم ملامحه فلم يتبين منها شيئا .. و قبل أن ينطق بادره الشاب قائلا :
- أتسمح لي أن أجلس معك ؟
ظل صامتا للحظات ثم هز رأسه موافقا  و عاد إلي جلسته الأولي و كأن لم يحدث شئ....
 جلس الشاب علي صخرة أخري بجانبه و ظلا صامتين و كأنهما تمثالين من حجر نحو ساعة حتي قال الشاب بصوت خفيض :
- أنا لا أقصد تدخلا في شئونك ... و لكن .. يبدو أن بك هما شديدا ، لعلك إن تحدثت به ارتحت قليلا
 ظل الرجل صامت لا ينطق و إن كانت لهجة الشاب الحنونة الخفيضة استثارت مكامن الحزن داخله فاهتاجت و أحس بنفسه رغبة في الافضاء بما يثقله و الحديث إليه  ، أخذ يقلب الأمر في رأسه قليلا ثم  بدأ يتحدث و يحكي عما به و عجبا يسترسل في الكلام دون أن يشعر فيعلو صوته حينا غضبا و ينخفض حينا حزنا  .. هكذا .... دون أن يعرف أيا منهما اسم الآخر أو يعلما أي شئ عن بعضهما ...
بل لعل لذة التحدث إلي الغرباء و الافضاء لهم تكمن في أنهم لا يعرفون أي شئ عنا ... لا يعرفون الأشخاص الذين نتحدث عنهم و لن ينقلوا لهم ما قلناه .. لن يحكموا علينا بغلظة أو يغلبوا هويً في أنفسهم علي ما يحق أن يقال ... 
 و كأن تخلصنا مما يثقلنا مع من لا يعرفنا أشبه بإلقاء حجر في بئر عميق ... فلا نحن نريد استعادته و لا البئر سيلفظه ...
انتهي من الحديث و آذان الفجر يتردد في الأنحاء ، ساد السكون بينهما حتي انتهي ثم قال الشاب و قد ارتفع حاجباه تأثرا :
- أنا حقا أشعر بالأسف من أجلك

و ساد الصمت مجددا بينهما لبعض الوقت حتي قال الشاب ببطء :
- أتدري ... أنا لن أبقي في هذه الدنيا أكثر من هذا الأسبوع
التفت إليه الرجل متعجبا ، فأكمل الشاب بابتسامة :
- لدي مرض عضال و أخبرني الطبيب أنه لم يتبق لي سوي بضعة أيام .....
ارتسم الانزعاج علي وجه الرجل و لمعت في عينيه دمعة اشفاقا منه علي شبابه الغض ، ازدادت ابتسامة الشاب اتساعا و ربت علي كتف الرجل و كأنه لم يلق بنبأ فظيع منذ لحظات فاشتدت دهشة الأخير لحاله   ثم بدأ الشاب يروي حكايته :

- ولدت في قرية صغيرة لأم ماتت أثناء إنجابي و أب حنون فقير اضطر للزواج بعدها لكي يجد من ترعاني ... كانت حياتنا صعبة و ازدادت صعوبتها بتصرفات أبي التي كنت أستعجبها  ... كان  يُبقي بالبيت ما يكفينا بالكاد و ما يزيد عن ذلك كان يعطيه لأول طارق .. كنت أتسائل عن ذلك في نفسي و أنا صغير و أحيانا أسأله فلا يرد و يبتسم و يتركني و حين كبرت قليلا و صرت قرابة السادسة عشرة من عمري ثرت علي فعله و انفعلت و أخبرته أننا هكذا سنظل فقراء طوال العمر ... فظل صامتا ثم نظر في عيني بعمق و حنو فهدأت قليلا ثم رفع بصره إلي السماء و قال بخفوت .. يا أكرم الاكرمين ... و لم يمض يومان علي هذا الموقف بيننا حتي كان قد توفي  ...

ابتلع الشاب ريقه ثم أكمل بصوت متأثر :

- و انقلب حال الدنيا بالنسبة إلي ... بعد ما يقرب شهرين من وفاته طردتني زوجة أبي من البيت و استعانت علي باخوتها .. طفت بأقاربي فلم أجد منهم معينا و لا مأوي حتي جن الليل عليّ فوجدتني وحدي .. شريدا في ليلة اشتدت ظلمتها فجلست علي رصيف ضيق ومعدتي تئن من الجوع و ذل الحاجة يوجع كرامتي .... وضعت رأسي بين رجلي و بكيت و تذكرت أبي فاشتد بكائي ثم تذكرت فعله و غضبت منه أن لم يترك لي شيئا يعينني و تذكرت ما كان بيننا قبل وفاته ، فرفعت رأسي إلي السماء و تذكرت كلمته ... و تذكرت كريم فعله .. ما كان أبي يرد طارقا قط ..
 أيردني الله و أنا أطرق بابه و هو أكرم الأكرمين .... أحسست بما يشبه الصدمة .. 
و كأني لأول مرة أفكر في معني الكلمة ... ما رأيت في عمري كريم يرد محتاجا إذا لجأ إليه ... فكيف بالله ... أيردني و أنا في أشد احتياجي إليه ...
 تطلعت إلي السماء بعينين ملئهما الأمل و كانت دموعي ما تزال تنسال علي وجهي .. فرفعت يدي لأمسحها .. ثم تبدت لي فجأة حقيقة غريبة ..
 ظللت أنظر إلي يدي فترة من الوقت ... كان من الممكن أن يخلقني الله من غير يدين .... أو يجعل لي يدان لا تتحركان .. ثم انتبهت أني أنظر إليهما ..
أنا أستطيع أن أري السماء و أن أري يدي .. عيناي تستطيعان البكاء توسلا إلي الله ... أستطيع أن أشهق و أنا أبكي دون أن يكون مع نفسي ألم يخالجني أو ضيق يطبق علي صدري ... أستطيع أن أسمع أصوات الحشرات حتي لا أشعر بالوحدة ..
بدأت أضحك من جنون أفكاري و غريب ما يخالجني من خواطر ..
 قمت واقفا لأنفض عن نفسي هذا الهذيان ... فوجدتني أستطيع الوقوف و المشي و الجري ...
كنت كطفل لأول مرة يكتشف حقيقة الأشياء .. أخذت أضحك علي نفسي و أنا أجري و كأني أجرب قدماي للمرة الأولي ..
 ثم توقفت فجأة و بدأت أبكي ... و اشتد بكائي حين أدركت أن الله اختارني ليجعلني أدرك قيمة ما عندي ... علمت أنه لم يردني .. لا يرد أكرم الأكرمين طارقا ببابه قط ..
 أدركت أنه يراني .. أنه معي .. في هذه اللحظة ينظر إلي .. و كأنه يقول لي .. أأخيرا أدركت عبدي أني أكرم الأكرمين دون أن تشعر .. وهبتك كل شئ و لم تدرك و لم تشكر  .. فما قطعت نعمتي عنك قط .....
كانت دموع الشاب تجري علي خده و هو يقول هذه الكلمات و قد ارتفع حاجبا الرجل تأثرا و امتلأت عيناه بالدموع ، فأكمل الشاب :
- فولله ما أصبح الصباح حتي وجدت صاحبا لي علم بحالي فألحقني بعمل بسيط لدي أبيه و من حال إلي حال تقلبت حتي جئت إلي القاهرة و عملت في مصنع كبير ، حتي علمت يوما بإصابتي بهذا المرض .. حزن لأجلي من يعرفني ... و حزنت أنا في البداية ... و أخذت أسترجع حياتي فحضر هذا الموقف حيا في ذاكرتي .. و اكتشفت أنه ليس هناك ما يستبقيني في الدنيا و شعرت بشعور غريب و كأن شكري لله من الدنيا لا يكفيني .. أنا أريد أن أذهب إليه لأشكره عنده ... فولله ما تركني قط ... أشهد أنه ما ردني قط ...
أخذ الشاب نفسا طويلا ليهدئ من أنفاسه المتلاحقة ثم أكمل :
- أنا لا أدري ماذا يحدث في الموت و لكني تعلمت شيئا واحدا أن الله هو أكرم الاكرمين ... و أنا أعلم أني إذا ذهبت إليه طالبا منه  رضائه و قربه .. فلن يمنعني عنهما ... ما عودني ربي الحرمان أبدا
كانت دموع الرجل تجري علي خده جريانا .. كان يستطيع الآن مع بزوغ الفجر أن يري وجه الشاب و قد علاه الاصفرار و احمرت عيناه من البكاء و بان عليه ضعف المرض ... أخذ الشاب يمسح دموعه ثم ربت علي كتف الرجل قائلا :
- أخبرتك أني أشعر بالأسف لحالك و لكن ليس لما مررت به ... و لكن لأنك عشت من العمر مديدا دون أن تدرك .. دون أن تري ... و مازلت تشكي و أنت لا تدرك و لا تري .. و لو تفقدت حالك و علمت ما أكرمك به الله ما حزنت أبدا ...
شعر الرجل أنه حي .. و كأنه ميت بُعث من جديد ... علي قدر حزنه علي ما فات .. علي قدر توقه لما هو آت ... قطع خواطره قيام الشاب من جانبه و هو يقول باسما :
- لابد لي من الانصراف الآن ، فأنا أقيم مع أحد أصدقائي و لا شك هو قلق علي
ابتسم الرجل ابتسامة شاحبة من بين دموعه ثم قال :
- علي الأقل ، هل لي أن أعرف اسمك ؟
- اسمي عبد الكريم



يا رب




يا رب

حرفان معطران بالرحمة ... مكللان بالسكينة .. و الهدوء .. و الاستكانة لمقادير الله ...

تلك اللحظة التي تتساقط فيها تعبا .. فتأخذ نفسا عميقا ..
" يارب "
 فتكتسب بقوة الاستعانة عونا علي ضعفك ..

تلك اللحظة التي يقهرك فيها الظلم و تشعر بالانكسار .. فتدمع عيناك ..
 " يا رب "
 ثقة بعدل المطلع علي كل شئ ..

أو قد تكون اللحظة التي تتأمل فيها حالك ... و بابتسامة رضا ..
 "يا رب"
حمدا لنعمه ظاهرة و باطنة ...

أو اللحظة التي تسرح فيها عيناك و في قلبك تشتهي و تتمني .. و برجاء .. "يا رب "
 يقينا بعلمه بما تخفي الصدور و تكن القلوب ...

يا رب ...

إنها تلك الكلمة الاعجازية السحرية التي لا ترتبط بدين معين أو عقيدة واحدة ..

تلك اللحظة اليقينية التي يتجلي فيها الاحساس بعظمة وجود الله و قدرته فوق كل شئ ...

طمأنينة عجيبة تتفتح لها الروح و إيمان بأن كل صعب إلي زوال ...

احساس بالسمو فوق كل متاعبك و رضا عن حالك مهما ساء ...
ادراك أنه سبحانه الخير فلا يأتي منه إلا كل خير ..

الحمد الله الذي لا شريك له في ملكه ... الحمد لله أنه لا إله إلا الله ..

الموت يحسن الأخلاق





إن حياتنا الحقيقية تتكون من لحظات .. لحظات تكون مضيئة بما يكفي ليظل نورها ساطع في ذاكرتنا للأبد .. 
لحظات تكشف لنا عمق أنفسنا و صدق مشاعرنا ...
لحظات تجلي زيف كثير مما نصدقه عن أنفسنا .. و صدق كثير مما كنا نعتقد أننا فقط ندعيه ...
 " و لو أنك علمت أنك ستموت أو سأموت بنهاية هذا الأسبوع  و لن نري بعضنا مجددا .. ؟ "

قاسية كلماتي ... ربما .. إن أكثر اللحظات حقيقة و  واقعية غالبا تكون أشدها قسوة علي النفس ...
ربما أول رد فعل طبيعي أن تلمع في العين لمعة الدموع .. تري لماذا ... ؟ 
أهو حزن علي ترك الدنيا أم خوف طفولي من مجهول لا يعود منه أحد ليحكي لنا ما رآه ...
أهو حزن علي أنفسنا أو علي وحدتنا هناك دون أحبابنا الذين سيظلوا هنا .. أم علي وحدتهم بعدنا ..
تري هل سيشتعل فينا سخط .. أم سنتقبل الأمر في استكانة .. 
هل سنبكي علي الأحلام التي لم نحققها .. و الحب الذي لم ننل نشوته .. و العمر الباقي الذي لن نحياه .. 

هل سنتساءل عن عبث أن نأتي قصيرا هكذا ثم نذهب ...
كم نحن حمقي .. أولم نأتي أصلا لكي نذهب .. 
من قال أنا باقين ! ألفارق كله يكمن فيما لو عرفنا متي سيكون الرحيل .. !
سيطوف بخاطرنا أحبابنا .. لم يعد باقي الكثير .. 
سنخبرهم كم نحبهم و كم يعنون لنا .. سنسامحهم علي تلك التي كنا نحسبها خطاياهم و الآن تبدو لنا تافهة صغيرة بجانب جلل الفراق و رحلة المجهول .. 
سنضحك معهم آخر الضحكات إن بقيت ضحكات و نذرف في أحضانهم آخر دموعنا و ندرك كم كنا أغبياء حين حسبنا أن العمر يكفي لكي نغضب و نقسو ثم نسامح حين يحلو لنا ..

سنتذكر أعدائنا .. أولئك الذين آذونا مر الايذاء .. ستطوف بأنفسنا طاقة تسامح نورانية تجعلنا نرغب في ألا نركب قطار الموت إلا و نحن أنقياء داخلنا .. فنسامحهم صادقين في مسامحتنا و نخبرهم أننا اكتشفنا أن الأمر فعلا لم يكن يستحق ...
و فجأة تشعر في لحظة أن الموت يحسن الأخلاق ... و يزيل أوهام خيالاتنا .. و يعيد الأشياء لحقيقتها .. 

في لحظة ندرك كم تبدو حياتنا تافهة و قصيرة .. سنتذكر فقط تلك اللحظات الحقيقة التي أضئنا فيها حياة من حولنا بكلمة أو ابتسامة أو احساس سعادة خلقناه في أنفسهم ... 
سيتكشف لنا كم هو حقيقي أن حياتنا ستستمر بعدما نرحل في أرواح أولئك الذي أعطيناهم من أرواحنا هبات السعادة و الحب و لحظات الصفاء ... 

و فجأة ..

 لن يبدو أمر ذهابنا بهذا السوء و سنبدأ نحن نشد من أزرهم بدلا من أن يشدو هم من أزرنا و سيتعجبون لصلابتنا .. 
و لن يدركوا أنها ليست صلابة .. 

و لكنا فقط رأينا الحقيقة بلا رتوش ... لأنا نحن من مررنا باللحظة الحقيقة التي أدركنا فيها أنها كانت حماقة حقيقية حين صدقنا الحقيقة المطلقة التي عشناها ...
 أننا سنحيا لنري الغد.

الصمت







أخذت تذهب و تجئ في الحجرة و يداها مشبّكتان خلف ظهرها و قد ارتسمت تقطيبة حادة علي وجهها دلت علي عميق التفكير...
 بينما جلس هو علي كرسي هزاز في طرف الحجرة يرقبها و في عينيه نظرة تحمل بعض التساؤل و كثير من الغموض و ابتسامة صغيرة علي ركن شفتيه تظهر و تختفي و كأنه يعرف ما يدور برأسها .
لم ينطق بحرف و ظل يرقبها صامتاً و عينيه تتبعانها في ذهابها و إيابها و كأنه يشعر بلذة خفية في مراقبة كل حركة من حركاتها
 إنه يحب الطريقة التي تمس بها الأرض مساً فهي لا تمشي و إنما تبدو و كأنها تطفو كسحابة رقيقة تحركها نسمات الهواء ، يعشق تلك التقطيبة علي وجهها تماماً كالأطفال حين يتظاهرون بالجد ، و هذه الرعشة الخفيفة في طرف اصبعها حين تتوتر ....
" أأنت واثق من حبك ؟؟ "
قالتها فجأة بطريقة حادة و قد التفتت إليه و في عينيها نظرة جادة ، لم يستطع أن يمنع نفسه و انطلقت منه ضحكة عالية رددت أنحاء الحجرة صداها و هو يقول جذلاً :
" مازلتِ كعهدي بك طفلة "
ظهر الغضب في عينيها و أدارت ظهرها له هامة بالانصراف فأمسك يدها بسرعة قبل أن تذهب قائلاً بصوت حنون ...
 " انتظري "
أدارت وجهها إليه فرمقها بنظرة عاشقة، عذبة، نقية، تحمل كل معاني التقديس و الحب...
 نظرة اخترقتها حتي الأعماق و من حنوها طافت بعالم وجهها تمسح التقطيبة و تُسكن السلام في ثنايا ملامحها...
حاولت عبثاً أن تحتفظ و لو بتقطيبة صغيرة تدل علي غضبها و لكن تحولت إلي محاولة بلهاء لمنع ابتسامة من الظهور علي شفتيها خاصة مع الحمرة القانية التي صبغت وجنتيها برقة زادتها سحراً و فتنة....
 شعرت أنها تكاد تذوب من فرط الحرارة التي استشعرتها في كل خلية من خلاياها ، و في محاولة يائسة للحفاظ علي قناع الجد سحبت يدها من يده و أبعدت عينيها عنه محاولة الهروب بالنظر إلي أي شئ في الحجرة سواه ... .
اتسعت ابتسامته و قام من مكانه ثم وقف قبالتها و قال بعد لحظة صمت :
" حبي .. أي كلمة هذه التي تستخدمينها !! حرفان !! أو تحسبين أن ما يموج بين جنبات صدري تعبر عنه حروف أو كلمات
مازلت كعهدي بك طفلة تعتقدين في الكلمات ، و لازلت لا أدري كيف أغرس إيمان الصمت في صدرك ...
أتصدقينني إن أخبرتك أنك الأمان الساكن في صدري... أنك رعشة النبضات في عروقي... 
أنك الهمس الذي يسري مع كل تنهيدة من أعماقي ..
 أنك الحنان الذي يطل من عيني و ضي الابتسامة علي شفتي ....
أتصدقينني إن أخبرتك أنني إن ضمت كفاي قطرات ماء رأيتك تتسللين من بين أصابعي ...
و أنك تتصاعدين مع بخار الشاي الساخن في الصباح و في رائحة النعناع العطرة ... 
أتصدقين أني أحتضنك كل صباح مع ربطة عنقي و أضمك إليّ حين ألبس سترتي ، و حين يغشي نور الشمس بصري أحسبها تلك إشراقة ابتسامتك ... و أظل ... أنخدع كل صباح .
أتصدقين أنك عطرة كرائحة زهر البرتقال في أوائل الشتاء .... 
شهية كفاكهة استدارت مكللة ندي الصباح ... 
أتصدقين أنك ساحرة كليلة صيفية جميلة تعطر نسيمها برائحة الفل و الياسمين ...
رائعة كنور فضي خلاب انبعث من بدر أستدار و اكتمل في سواد السماء المرصعة بالنجوم .....
أتصدقين أني ما استطعت أن أصف لك ذرة من فيضان المشاعر في صدري ، و عميق احساسي بك يا ضياء عيني ...
و أني ...
 أعلن كفري بالصمت إن أنت أحببت الكلمات . "
ساد سكون تام بينهما لا يقطعه إلا حفيف أنفاس خافت مختلط بدقات قلبيهما المرتفعة ، انفرج فمها انفراجة خفيفة ثم أغلقته فقال بحنو دافئ :
" ماذا أردتِ أن تقولي ؟ "
لم تنطق و ظلت تطوف بوجهه للحظات بدت و كأنها سنوات ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة خجولة و همست بصوت خفيض :
" الآن آمنت بالصمت " .