مكالمة آخر الليل







أقفلت التليفون بحدة و عصبية ..
امتلأت عيناها بالدموع .. 
أخفت وجهها بين كفيها بالرغم من أنها كانت وحدها بالحجرة ..
كم تكره "الخناق" معه ..
ربما أخطأت بعض الشئ... لكن لا شئ يبرر كل هذه العصبية التي لا داعي لها ..
الكثير من الدراما و تبادل الاتهامات بزوال الحب أو نقصانه .. 
كلاهما مرهق حتي النخاع .. و مضغوط ..
و مع قلة النوم و الحر .. توليفة متينة لخناقة عظيمة بينها و بينه علي شئ بالنسبة لها تافه ..
و بالنسبة له .. ربما يكتشف أنه تافه حين يستيقظ في اليوم التالي .. 
قامت من مكانها في غيظ مكتوم ..
أكثر ما أثار حنقها أنه أقفل معها لينام ..
انقبض قلبها في ألم ..
كيف ينام دون أن يكلمها و يصالحها ..
كيف هان عليه أن تبيت بدموعها حتي الصباح ..
حسنا .. هو أراد الأمر كذلك .. ليكن 
ستذهب لتنام ايضا .. 
و ستغلق تليفونها .. و لن تكلمه ..
لن تضعف مثل كل مرة ..
 أغلقت التليفون و اسودت شاشته ..
أقفلت النور و اندست تحت أغطية السرير ..
مازالت تستعيد كلماته و كلماتها الحمقاء المنفعلة ..
نظرت للتليفون الملقي بجانبها .. 
ماذا لو كان أخبرها أنه سينام لأنه كان غاضب فقط ..!
لكنه في الحقيقة لم ينم ابدا ..
و ربما اراد أن يكلمها و وجد تليفونها مغلق و سيجن جنونه و يعند أكثر ..
فتحت تليفونها مرة أخري بهذه الحجة ..
تقلبت في السرير مولية إياه ظهرها ..  
كلما تذكرت حماقتهما كلما شعرت أن الامر لم يكن يستحق ..
ربما لو كانا تحدثا في توقيت أكثر راحة لهما .. كان الأمر سيختلف حتما ..
تذكرت الظروف التي يمران بها .. هو مضغوط ..
و هي أيضا مضغوطة ..
لكن ..
لا تدري ..
لا يهون عليها أن تتركه ينام غاضب .. أو لا ينام علي الاطلاق من شدة حزنه من كلماتها الغاضبة ..
برغم كل شئ .. حبيبها .. لا يجب أن تكون مصدر ضغط إضافي عليه .. أو سبب زائد من اسباب تكدير عيشته .. و هي التي يلجأ إليها و يبحث عن حنانها ....
حن قلبها رغما عنها ..
لا بالتأكيد لم ينم .. اكيد لم يهن عليه .. لكنه الكبرياء الذي يأبي عليه الاتصال ..
تناولت التليفون و طلبت رقمه ..
رد عليها من وراء عالم الأحلام ..
في صدمة همست .. 
"أنت نائم ؟؟"
كان نائما فعلا .. بعمق ..
ظلت صامتة بعض الشئ و هو يتمتم بكلمات متفرقة في وهن ..
و بهدوء أقفلت ..
ظلت محدقة في السقف .. ثم أغمضت عينيها ..
و حاولت أن تنام ..

في الصباح التالي اتصل بها .. كان يخبرها بأمر عاجل .. فلم يتسني لهما الحديث عما حدث البارحة .. 
و هي لم تتحدث في الموضوع ابدا .. ولم تبد له اي غضب أو  "زعل"  ..

في المساء حين تحدثا مجددا .. سألها متعجبا في حذر ..
" أنت مش كنتي زعلانة مني .. ؟؟ "
بابتسامة هادئة ردت ..
"لا يا حبيبي .. أنا مقدرش ازعل منك .."
"أمال ليه مكلمتنيش تاني بعد ما قفلنا امبارح؟؟"
"كلمتك يا حبيبي و انت كنت نايم .. " 
هو بالفعل لا يذكر .. كان نائما بعمق ..
ابتسمت و هي تتذكر مكالمة آخر الليل ..
كان نائما فعلا ..حين تمتم من قلبه دون وعي ..
حبيبتي .. 
 زعلانة .. انتي ..
أنا مقدرش .. 
والله ..
حقك عليا .. 
أنا بحبك ..
 

لقمة هنية







حجرة صغيرة .. ضيقة .. فوق السطوح ...
لكن لطيفة .. و مريحة ..
أثاثها قليل .. ما بين سرير و كنبة احتلوا معظم المساحة .. و حمام صغير بني في جانب ..
لها شباك بعرض الحائط .. تتسلل منه الشمس علي استحياء و يسكنه الهواء المنعش طيلة أيام السنة .. 
و أمام مرآة صغيرة في ركن الحجرة .. وقفت "بهية"
يتيمة هي .. بلا أب و لا أم ..
ليس لها في الدنيا إلا زوجها الذي سحرته عيون بهية و طلتها .. فتزوجها و آواها في هذا العش الصغير ..
كانت حقا بهية .. 
ذات بشرة بيضاء نقية و عينان واسعتان و شفتين رقيقتين .. 
وجه صاف خال من اي مساحيق .. لا يزينه إلا براءتها التي تصل إلي حد السذاجة ..
لها ضحكة تبهج القلب الحزين .. و ليديها حنو يتبدي علي كل ما حولها ..
مشطت شعرها و ربطته حتي لا يطيُره الهواء ..
نظرت إلي الساعة المعلقة علي الحائط ..
سيأتي زوجها الآن ..
لحظات و سمعت وقع خطواته علي السلم ..
استقبلته مبتهجة و كأنما تستقبل فيه كل دنياها ..
لفة صغيرة في يده .. بها سمكة واحدة .. بعض البصل الأخضر و الجرجير ..
بخجل في نفسه أعطاها لها و هو يقول ..
" أنا عارف وعدتك بأكلة سمك من اللي بتحبيه .. بس مكفاش اللي معايا غير أجيب واحدة"
ابتسمت له في طفولة جميلة و هي تتناولها من يده قائلة ..
"متحرمش منك يا سيد الناس"
طبلية صغيرة أخرجتها علي السطح في الخارج و وضعت في جانب منها وسادة مريحة ليجلس عليها زوجها بدلا من الأرض ..
خرج من الحجرة بعد أن بدل ملابسه ..
بلونه الاسمر الجميل و ابتساماته جلس علي الدكة و تجاهل الطبلية و بطنه الخاوية قائلا ..
"أنا مش جعان .. بالهنا و الشفا"
" لا مش ممكن .. والله ما أكل لقمة إلا أما تاكل معايا"
كان يريد لها ان تستمتع وحدها بالسمكة بعد ايام طويلة من التقشف في الطعام ..
فهو يوم يعمل .. و عشرة يبحث عن عمل ..
ظلت تصر عليه حتي جلس ..
و استسلم قائلا ..
"طيب نقسمها سوا"
رفضت هي و بابتسامة وضعت السمكة في طبق واحد و قالت ..
"ناكلها سوا .."
 مد يده و بدأ يأكل ..
و أخذت تسليه بحكايات سمعتها من هنا و هناك ..
و هي تضع لقمة بلقمة في فمها الصغير ..
و اندمج هو معها في الحديث حتي انتهي الطعام و اختفت السمكة ..
فقامت حاملة البقايا و دخلت الحجرة ..
و فتحت يدها فكان بداخلها لقمة عيش ..
كانت لقمة واحدة ابقتها في يدها طوال الوقت و تظاهرت انها تأكل معه ..
كانت تعلم كم هو جائع و متعب ...
لم تكن تحب السمك .. لكن كان يحبه .. و لذلك طلبته ..
و تظاهرت بالأكل معه حتي يأكلها وحده دون ان يدري ..
فلم يكن أحب إليها في الدنيا منه .. و لا أكرم علي نفسها من راحته ..
و لم تملك شيئا تهديه له من حبها .. سوي أكلة هنيئة بعد طول شقاء ..
انتبهت انه ينتظرها ..
فمن طبق صغير تناولت قطعة جبن من البارحة و أكلتها ..
و بعد دقائق ..
خرجت إليه و في يدها كوبين من الشاي ..
و فيما هو جالس باستمتاع في الهواء الطلق قال لها ..
"عجبتك السمكة ..؟"
ابتسمت بحب ..
"كانت لقمة هنية يا حبيبي .."  


ياسمين







كان الوقت ليلاً و القمر  أرسل ضوءه الفضي الجميل منيراً سطح تلك العمارة الكائنة بأحد شوارع المعادي و قد أخذت نسائم الصيف تداعب الياسمين المنتشر في أرجائه مرسلاً شذي عبق الجو برائحة تتفتح لها النفس و تهفو إليها الروح . 
هناك ، وقف يوسف سانداً مرفقيه إلي السور متاملاً القاهرة التي لا تنام ، ما بين أُناس الليل اللاهين ، الساهرين في الشوارع و البيوت حتي بزوغ الفجر و بين أولئك المنتظرين لذلك الفجر حتي يبزغ معلناً بدء يوم جديد . 
كم ألف ألف حكاية تحتويها تلك البيوت...
 كم ساهر الليلة يفكر في حب مكتوم .. و كم متألم بجرح ليس يبين ..
كم غافل نسي أن يقدر من أحبوه حقا .. 
و كم غاضب و حزين لم يدركوا أن الحياة اقصر من أن نضيعها في لحظات الشقاء .. 
شعر لوهلة .. أن الانسان يضيع من عمره الكثير في انتظار اللحظة المناسبة برغم أنه لا يعلم إذا كان سيحيا ليري الغد ..
لطالما أحب الصعود الي هنا للتأمل وحده ..
أو مع ياسمين جارته و رفيقة صباه، أمه و أمها بنات عم و صديقات ، فجمعت بينهما القرابة و الجيرة فكانا كأخوين لا يفترقان، دائما كانت مستودع اسراره و محل ثقته و إعزازه ......

" اللي واخد عقلك " 

نظر خلفه فوجدها ياسمين و قد علت وجهها إبتسامة جميلة فقال :
- ياريتني إفتكرت مليون جنيه .. كنتي لسة علي بالي
- يا بختي ، يا بختي ، جيت علي بال يوسف بيه شخصيا
 فابتسم ضاحكاً من قولها و قال :
- بلاش لماضة و قوليلي طالعة ليه ؟ إنتي مش مسافرة باريس بكرة ... !
- ما أنا بمناسبة السفر قلت أديلك دي .

و مدت يدها إليه بعلبة حمراء متوسطة الحجم ملفوفة بشريط ذهبي عريض ، فنظر إليها متسائلاً و قال :
- إيه دي ؟ هو أنا عيد ميلادي النهارده و أنا نسيت و لا إيه ؟!
- لاء يا خفيف ، البوكس دي مني ليك بشرط إنك ماتفتحهاش غير بعد مسافر
- إشمعني ؟
- هو كده ، إوعدني إنك مش هاتفتحها غير بعد مسافر

هز كتفيه متعجباً و قال :
- ماشي ، زي ماتحبي
فأعطته العلبة و قالت :
- أروح أنا بقي ، عشان رايحة أشتري شوية حاجات
عقد حاجبيه مستاءً و قال مستنكراً :
- دلوقتي ؟؟
- دلوقتي إيه ! لسه الساعة 8 ، و أنا أصلاً هاجيب شوية حاجات من المعادي هنا و جايه علي طول

زفر في ضيق و قال :
- متأخريش ، نص ساعة و تبقي هنا
زمت شفتيها مانعة إبتسامة من الظهور و قالت :
- حاضر

ثم أخذت حقيبتها و إنصرفت، فأخذ ينظر إلي العلبة الحمراء بفضول و يده تعبث بالشريط الذهبي و كأنها تحاول فكه عن غير عمد. أراد أن يتمسك بوعده لها بألا يفتحها حتي تسافر ، فتركها و ذهب يري هل وصلت ياسمين الي الشارع أم لا . 
و ما إن وقع بصره علي الطريق حتي وجدها تمشي في خطي مسرعة و خلفها شابان يطلقان كلمات بذيئة و يضحكان بصوت عالي. 
قفز من مكانه و إندفع ينزل السلالم كالصاروخ و ما إن وصل إلي الشارع حتي كانت هي قد بدأت تتواري عن ناظره عند ناصية قريبة و أحد الشابان يحاول أن يمد يده ليمسك حقيبتها و قد إزدادت خطواتها سرعة. 
أخذ يعدو بكل قوته لاحقاً بها و عندما وصل إليها كان أحدهما يحاول التقرب منها فكال له لكمة أودعها كل قوته فأسقطته أرضاً ثم إلتفت إلي الثاني متعاركاً معه و كل ذلك و ياسمين واقفة ترتجف بجانب الحائط ثم رأت ذلك الذي وقع علي الأرض ينهض و في يده مدية محاولاً طعن يوسف من الخلف و دون أن تدري دفعت يوسف من أمامه فإحتل جسدها ذلك الفراغ و إندفعت المدية تشق بطنها فاطلقت صرخة مدوية و سقطت علي الارض و قد تفجرت الدماء منها. 
لاذ الشابان بالفرار و إندفع يوسف إليها ملتاعاً، فحملها علي ذراعيه و ضمها إلي صدره و قد فقدت الوعي، أسرع بها إلي سيارته و وضعها بجانبه ، مزق قميصه و وضعه علي جرحها محاولاً وقف النزيف ثم أدار السيارة و إنطلق في سرعة جنونية إلي أقرب مستشفي و ما إن وصل حتي حملها و إندفع بها إلي الداخل و هو يصرخ في هلع :

" دكتور بسرعة"

أسرع إليه طبيب و معه ممرضتان فحملوها عنه و أسرعوا بها و هو خلفهم حتي دخلوا غرفة العمليات. و ما إن غابت عن ناظره حتي شعر بأن ساقيه لم تعودا قادرتين علي حمله، فإنهار إلي الأرض ذاهلاً و هو لا يشعر إلا بلزوجة الدم علي يديه و لا يسمع إلا الصرخة التي أطلقتها قبل أن تسقط و دموعه تغرق وجهه و القلق يثور في صدره .....

ظل علي حاله حتي خرج إليه الطبيب بعد نحو ساعتان أو ثلاث ، فإندفع إليه صائحاً :
- عاملة إيه يا دكتور ؟
زفر الطبيب الشاب في عمق و قال:
- الحمد لله ، لحقناها علي آخر لحظة ، بس هي لسه في مرحلة الخطر .... إدعي الأربعة و عشرين ساعة الجايين دول يعدوا علي خير .....

و قبل أن يرد يوسف عليه ، رن تليفونه ..
 يا إلهي ، لقد أسرع إلي المستشفي و أنساه الهلع أن يخبر أهله و أهلها بما حدث!
رد علي أمه و حكي لها ما حدث ، فأقفلت معه و قد سيطر عليها الهلع و الإرتياع و لم تمض نصف الساعة حتي كانت الأسرتان عنده و ما إن رأته أم ياسمين بهذا الشكل و الدم منتشر علي ملابسه حتي صرخت في فزع،  لكنه أسرع إليها محاولاً طمأنتها مخبراً إياها بما قاله الطبيب ....

جلسوا جميعاً مطرقين و قد إنسابت دموعهم بلا توقف، و بعد مضي بعض الوقت طلب منه والد ياسمين أن يذهب إلي المنزل لكي يرتاح قليلاً و يبدل ملابسه، رفض رفضاً باتاً و لكن إزاء إصرار الرجل وافق أن يذهب ليبدل ملابسه علي أن يعود إليهم.

كانت الساعة قد جاوزت الواحدة صباحاً حينما دخل إلي الشقة الغارقة في الظلام، إغتسل و بدل ملابسه و لكنه لم يستطع أن يجلس بالشقة أكثر من ذلك و شعر بحاجة إلي الهواء فصعد إلي السطح و ما إن وصل إليه حتي وقعت عيناه علي العلبة الحمراء فلم يستطع كبح دموعه التي إنسابت من عينيه. 
إحتضن العلبة بين يديه و قد إشتم فيها شذي ياسمين فهاج الألم في صدره قاتلاً إياه، لم يستطع أن يمنع يداه اللتان إمتدتا ببطء و أخذتا تفكان الشريط الذهبي و تفتحان العلبة و كأنه فقد كل سيطرة عليهما ......

فتح العلبة ، فوجد داخلها أشياء متفرقة لا يجمع بينها سوي أنها كلها هدايا كان قد أهداها لياسمين في مناسبات مختلفة .... 
فهذا الدبدوب كان قد إشتراه لها منذ شهر..
و هذه اللعبة أول هدية أحضرها لها و هي في العاشرة من عمرها
 و ... ياه ..
هذه الوردة ، أمازالت تحتفظ بها !
 لقد أعطاها لها منذ نحو سنتين أو ثلاث، كانت أول وردة تزهر من نبتة كان يزرعها...

ظل يتنقل من غرض إلي آخر و الذكريات تتدفق علي رأسه بلا إنقطاع، ثم وجد ورقة مطوية بعناية في قاع العلبة ففتحها و أخذ يقرأ :

" يوسف ، ترددت كثيراً قبل أن أكتب إليك رسالتي هذه ، و لكنني منذ علمت أن أيامي في الدنيا أصبحت معدودة لم أستطع أن أمنع نفسي من أن تبوح بالسر الذي لطالما أخفيته عنك ... نعم ، أيامي في الدنيا أصبحت معدودة ، فقد إكتشفت منذ شهر أن ورم خبيث يسكن صدري و بذلت كل جهدي لأخفي عنك ذلك لأجنبك ألماً لا تستحقه، و رحلتي إلي باريس لم تكن للسياحة و إنما للعلاج . سأُجري عملية ، إن نجحت ، قد أعيش لبضعة أشهر أخري و ربما سنة أو إثنتان... 
أرجوك لا تحزن و لا يشغلنك هذا عن قراءة بقية رسالتي فليس هذا هو السر الذي أخفيته عنك .. 
و إنما سري الذي أخفيته في صدري و كتمته في قلبي فلم يعلم به مخلوق ..
هو إني .... 
أحبك ... 
نعم أحببتك دائماً و أحبك و سأظل أحبك حتي آخر نفس يتردد في صدري...
أقولها لك الآن بملء فمي .. 
أحبك ، أحبك ، أحبك ... 
أحب عينيك و أنفك و شفتيك ، أحب إبتسامتك اللذيذة ، أحب صوتك الدافئ ، أحب لمستك الحانية...
 أحبك حين تضحك و حين تغضب و حين تقرن حاجبيك متصنعاً الغضب و حين ترفعهما مندهشاً من تصرفاتي المجنونة أحياناً... أحب حنانك و طيبتك و رجولتك الحقة ...
أحب كل تفصيلة صغيرة متعلقة بك .... 
أحبك، أحبك ، أحبك ....
 أأكثرت من قولها ..؟
 إغفر لي فقد حبستها في صدري سنين طويلة ، أفلا أقولها الآن بضع مرات ...!
 إغفر لي إسهابي في الحديث و إطالتي الكلام فأنا لا اشعر أني مع ذلك قد نقلت لك ذرة من إحساسي بك و حبي لك.
 يوسف ...
 أرجوك لا تحزن فليس أصعب علي نفسي و لا أقسي علي قلبي من أن أشعر بك حزيناً و أرجوك لا تحاول الإتصال بي في باريس لأني لا أريد أبداً أن يأتي اليوم الذي أسمع فيه نبرة الإشفاق في صوتك علي ....... 
مهما طال الكلام فلابد أن ينتهي ، و في نهايته أقولها لك صدقاً ، أني سأظل ما بقي من عمري القصير أذكر أحلي أيام عمري التي قضيتها معك ....
ياسمين "

أنهي الرسالة و قد سالت دموعه كالحمم علي وجهه ، أحس بإحساس غريب .... 
و كأن رسالتها أيقظت قلبه و أشعلت النار في حنايا صدره ، الآن بعد أن كاد يفقدها شعر أنه لا يستطيع الحياة بدونها، أحس أنه يحبها ، يحبها حباً لا تسعه القلوب و لا تكفي الكلمات للتعبير عنه. 
لن تذهب...... ستكافح من أجله، من أجل حبهما، سيعوضها عن كل ما ضاع من عمرها. 
لم يستطع أن يظل جالساً في مكانه فأسرع إليها، لم يشعر بنفسه و هو يركب السيارة و ينطلق بها إلي المستشفي...
لم يعد يشعر إلا بحبه لها و قلبه الذي يود أن يخرجه من صدره و يهديه لها أبخس هدية...
 سار مسرعاً في طرقات المستشفي حتي وصل إلي الدور الذي توجد به العناية المركزة ، فسمع أصوات بكاء و نحيب...
 صرخ من أعماقه ، لا ، لا، لا، ليس الآن ، ليس الآن ..... 
إنقلبت خطواته المسرعة عدواً .. 
لا تتركيني ، ليس الآن .. 
و ما إن رآه أخوه قادماً حتي أسرع إليه و إحتضنه فصرخ فيه :
- إيه اللي حصل ؟
- خلاص ..
- لاء ، لاء ، ياسمييييييييييين
أطلق صرخة رددت طرقات المستشفي صداها..
 صرخة أنين و ألم ...
ألم ينشر نفسه بلا رحمة و يكاد يمزق أوصاله... 

دفع أخوه بعيداً و أسرع إليها...
 لا تتركيني أرجوك ، ليس الآن ، لن أستطيع الحياة بعدك ... 
أمسكوا به و أخوه يصيح:
- ماتعملش في نفسك كده يا يوسف

و عندما سمعت الممرضة إسمه ، أسرعت إليه قائلة :
- حضرتك يوسف ...؟

إلتفت إليها في حدة ،فأكملت قائلة :
- هي قبل ما تتوفي ، فاقت 5 دقايق و مسكت إيدي و قالتلي 
" قولي ليوسف ما يزعلش " 
و بعديها توفت.

لحظة خجل





في لحظة خجل واحدة ...
تبخرت شخصيتها.. مفاهيمها و أفكارها ...
اختبأت خلف قناع بلون الخدود المخضبة بالحمرة...
و توارت في نظرة عين فضولية .. مترددة .. متطلعة ..
و بابتسامة ساذجة لا تشبه اشراقة ابتسامتها ..تظاهرت بالانشغال ..
و هي في حقيقتها غارقة حتي أذنيها في محاولة ألا يبدو عليها شئ ..
بينما كل شئ فيها يفضح .. خجلها ..
و يخبئ شخصيتها الرائعة .. و روحها المرحة الخفيفة ..

عزيزتي ..
مم تخجلين .. ؟!!
من حكم الناس عليكي .. من آرائهم فيكي .. !!
ماذا سيقولون إذا فعلت كذا و كذا .. بم سيعلقون إذا تصرفت هكذا ..
إن كلمة تلقي من أحدهم دون انتباه منه .. يعود بعدها إلي منزله خالي البال .. و تحدث تأثيرا عميقا بنفسك ... لا تستحق ..
فعلا .. لا تستحق !

ما الذي يربكك و يفسد عليكي ثقتك بنفسك ؟؟
انتِ أميرة و عليكي أن تعاملي نفسك بما تستحقه الأميرات ..

لا يهم ما يعتقده اي شخص آخر غيرك .. طالما تتصرفين وفقا لما ترينه صحيحا .. لا تكترثي لأي كائن من كان ..

إن نصف جمالك و اشراقة طلتك يكمن في ثقتك بنفسك و قوة شخصيتك..
لا تدعي الحياة تتسرب من بين يديكِ و أنت مكبلة بأغلال الخجل متعثرة الكلمات و الخطوات ..

و أخيرا اعلمي أن شتان ما بين خجل يكتم شخصيتك و يفسد عليكي حياتك ..
و ما بين حياء لطيف يغلف جمالك ..

لا تسمحي لنفسك الخجولة تلك بعد الآن إلا أن تطلق عليكي لقب "الأميرة" ..
أنتِ مشرقة .. رائعة .. مفعمة بالحيوية ..
لا تقبلي بأقل مما تستحقين ..
يا اميرتي :) :)

عيد مولدها








 صوت موسيقي كلاسيكية تنبعث من منبه قريب من سريرها ...
تفتح عينيها ببطء و بتكاسل تغلقه ... 
تنظر بجانبها فتكتشف أن زوجها نزل في الصباح الباكر دون أن يوقظها ..
تتناول تليفونها المحمول .. تطلب رقمه .. ثم يأتيها صوته الهادئ بتحيته الصباحية المعتادة ..
"صباح النور يا أميرتي .."
ابتسامة علي شفتيها برغم اعتيادها علي سماعها منه .. و بعتاب لطيف ..
" لماذا لم توقظني معك يا حبيبي ..؟ كيف تنزل هكذا دون فطور"
بضحكة رائقة يرد ..
" لا تقلقي يا أمي الصغيرة .. فطرت .. و لم اشأ أن أوقظك لأنك كنت متعبة البارحة .."
تبتسم لحنو كلماته ثم تسأل ..
"ستتأخر اليوم" 
صمت قصير ثم قال ..
" نعم ... غالبا"
تقفل معه ثم تقوم من سريرها بلذة الكسل الصباحي بعد ليلة نوم هنيئة .. 
تلقي نظرة علي الجريدة الملقاة علي الطاولة المجاورة لها .. 
تاريخ اليوم ...
ياه .. غدا عيد مولدي ..
أحقا سأكمل عامي الأربعين ..
تخطو نحو المرآة بتردد ..
تتأمل بشرتها البيضاء الصافية .. و التجاعيد الصغيرة التي تزحف تحت عينيها علي استحياء ..
الحمد لله ..
لازالت جميلة برغم مضي العمر .. 
تنظر إلي الساعة المعلقة علي الحائط ..
لابد أن تسارع بالنزول .. أمامها قائمة طويلة من الأشياء التي عليها أن تحضرها قبل حفلة عيد ميلادها .. عليها أن تختار أيضا هديتها بنفسها و تتركها لزوجها في مكانها المعتاد ليقدمها لها .. 
ضحكت في سعادة لا مبالية .. لم تتخيل أن تصل يوما إلي المرحلة التي تتعامل بها بطبيعية شديدة مع الأمر هكذا ..
تذكرت في بداية زواجهما و أول عيد ميلاد لها ..
ظلت جالسه علي هذا الكرسي بالذات ساعات طويلة تنتظره حتي منتصف الليل لعله يتذكر عيد مولدها ..
لكنه لم يتذكر أبدا ..
نسي .. و بكت كثيرا في حزن ..
و حين عاتبته ..
اكتئب أياما طويلة لأنه نسي .. لأنه أحزنها ليلة عيد ميلادها ..
لكن كان الأمر حقا خارج عن إرادته ..
فبرغم كل صفاته الحلوة ... و طيبته التي لم تر لها مثيلا ..
إلا أنه كان يعاني من آفة النسيان ..
كأن الله خلقه بذاكرة صغيرة ضيقة لا تحتمل اكثر من أحداث يوم واحد ..
و بمرور السنين بدأت تعتاد ذلك منه ...
و تكفل حبه القوي لها .. و ارتباطه الشديد بها ..
 اعتماده عليها في كل شئ .. في كل تفصيلة صغيرة من حياته .. 
و مفاجآته الصغيرة من وقت لآخر..
 أن يعوضوا عن نسيانه كثيرا لتواريخ ايام مميزة في حياتهما ..
لكن بقت مشكلة واحدة ..
أنه في كل سنة كان يبذل قصاري جهده ليتذكر عيد مولدها .. و كثيرا ما يخفق .. فيمضي ايام كثيرة مكتئب حزين ..
فصارت هي مرة بعد اخري تذكره و تحضر الهدية بنفسها و تضعها له .. و تقيم الحفلة .. و تتظاهر أنه لم ينسي ..
كأنه طفلها الصغير الذي تخاف عليه من حزنه .. 
انتزعت نفسها من ذكرياتها بابتسامة كللت شفتيها ..
و هي تهمس لانعكاس صورتها في سعادة ..
"كل سنة و أنا طيبة .. كل سنة و انت حبيبي ... "
 تحركت من أمام المرآة و بدأت تستعد للنزول ..
ظلت في الخارج حتي قرابة السادسة مساء .. 
كلمته علي تليفونه .. لم يرد 
فخمنت انه لازال في العمل .. 
"ربما مشغول .."
هكذا قالت لنفسها ..
صعدت إلي الشقة .. 
فتحت بمفتاحها و دخلت ..
وجدته جالس في الصالة علي كرسي في مواجهتها ..
بعينيه الزرقاوتين العميقتين .. و هدوءه .. و ابتسامته الطيبة الجميلة ..
 أقبلت عليه متهللة لرؤيته ...
فأخرج من وراء كرسيه لوحة كبيرة و أعطاها لها دون كلمة واحدة ...
تعجبت من فعله و تناولتها متسائلة بابتسامة ..
فأشار لها بيده أن تتأملها جيدا ..
خفضت بصرها إليها .. و ارتفع حاجبيها في تأثر بالغ ..
كانت لوحة بيضاء كبيرة ألصقت عليها ورقات النتيحة يوما وراء الآخر من أول السنة حتي تاريخ عيد مولدها غدا ..
و أسفل كل ورقة عد تنازلي كم بقي علي اليوم الموعود ..
نظرت له غير مصدقة ..
احتوي دهشتها بنظرة عينيه العميقتين ..
تناول يدها بين كفيه ...
و ببراءة كل الحب في نفسه قال في صوت خفيض ...
"أحصيت الايام من أول يوم في السنة حتي لا أنسي يا حبيبتي ..."
اغرورقت عيناها بدموع التأثر .. 
فاحتضنها بقوة وو همس في أذنها برنة فخر طفولية ..
" لم أنس هذه المرة يا حبيبتي .. لم أنسي عيد مولدك" 

 
 

أن تشعر ...






أن تشعر يعني أن تحمل عبء العالم علي كتفيك ..

أن تشعر .. أن تُقدِر ما يمر به الآخرون .. أن تكون مستعد للعطاء ..

يعني أن تدرك ان الإنسانية بعضا من الشقاء عليك أن تتعايش معه ..

أن تشعر يعني أن تتحمل ..

أن تتجاهل نفسك لأجل الآخرين ..

أن تخبئ حزنك لكي لا تجرح ابتسامتهم .. أو تثقل علي أحزانهم ..

أن تشعر يعني أن تسمع ..

أن تصغي جيدا لمشاكلهم و آلامهم و أمالهم ..

أن يكون لديك استعداد دائم و مستمر لتقديم دفعة مخلصة من التشجيع و الامل..

أن تعطي بلا انقطاع .. و مع كل قطعة من نفسك تهديها للآخرين تدرك أن
كل خطوة تخطوها للأمام تبني وراءك سدا يمنعك من الرجوع ..

أن تشعر يعني أن تسامح ..

أن تتمتع بالقدرة علي الصفح و الغفران و التقبل ..

أن تكون حضنا مفتوحا لكل لاجئ يبغي الاعتراف بخطئه دون اصدار أحكام عليه و يبحث عن السكينة ..

أن تكون أنت السكينة برغم كل براكين الحيرة و زلزلة القلق التي قد تعتريك ..

أن تشعر يعني أن تدرك .. أنك أنت .. تحتاج للعطاء بأشد مما يحتاجوا هم للأخذ... 


طفلة في العشرين من عمرها








جلست يارا علي كرسي وثير في منتصف الحفل داخل منزلها .. 
" حفل عيد ميلادها العشرين " .. 
كانت مرتدية ثوب بسيط ، أبيض ، أنيق و لفت حول كتفيها شال فيروزي اللون أبرز تألق عينيها الزرقاوتين اللتان تعكسان شقاوة خفية و كأنها طفلة في الخامسة من عمرها . 
ارتسمت ابتسامة عريضة علي شفتيها حينما رأت صديقتها المقربة ريم مقبلة عليها و هي تبادرها قائلة بابتسامة جميلة انعكست فيها الشقاوة المطلة من عيني صاحبتها :
- كل عشرين سنة و انت طيبة
ضحكت و قالت :
- كل عشرين سنة و احنا أحلي أصحاب

احتضنتها طويلا فقد مر ما يقرب علي شهرين منذ آخر مرة التقيتا فيها ، ثم أعطتها هديتها و جلست بجانبها .

 ساد الصمت بينهما قليلاً و سرحت يارا بأفكارها في أيام الطفولة البريئة .... لا تصدق أن كل هذا العمر مر ، شعرت بأنها لا تزال طفلة صغيرة تجري و تلعب و تطارد الفراشات ...
و كأنها لا زالت ...!!
لا هي في الواقع لا زالت تمضي الساعات في تلوين رسومات الأطفال!
كتمت ضحكتها بسعلة بسيطة ، فنظرت إليها ريم و قالت :
- عارفة افتكرت إيه دلوقتي ؟
- إيه ؟
سكتت لحظة ثم أغرقت في الضحك و هي تقول :
- لما باباكي كان جايب قفص بصل و حاطه في البلكونة و قعدنا ننشّن علي الناس من فوق
أكملت يارا من بين ضحكاتها :
- أيوه و الراجل اللي طلعله بقليلة في راسه و فضل واقف ساعتين عشان يعرف البصلة اترمت منين

استغرقتا في الضحك و كادت يارا تخبرها أنها كانت لتوها تتذكر نفس الموقف و لكن تراجعت ، فذلك ما يحدث معهما عادة ، كثيرا ما تفكران في نفس الشئ ، في نفس اللحظة ، حتي صار شيئاً مألوفا لهما و كأن ما يربطهما أقوي من الصداقة و أشد و أعمق . 

نظرت إليها و هي لا تجد كلمة تعبر عن مقدار ما تكنه لها من حب و مودة و قبل أن تقول شيئاً وجدت ذراعان تلتفان حولها و قبلة تُطبع علي خدها ، التفتت وراءها فوجدته زوجها الذي قال بابتسامة حلوة واسعة :
- كل عشرين سنة و انت طيبة
- كل عشرين سنة و انت حبيبي
فقالت ريم بطريقتها المرحة التلقائية و هي تغمز بعينها :
- عرسان ياخواتي !
ضحكا من طريقتها و قال مقلداً إياها و هو يغمز بعينه :
- طبعا عرسان ، و احنا لحقنا ! دا ماعداش سنة علي جوازنا

استغرقوا في الضحك ثم انصرف الزوج حين ناداه أحد المدعويين، و ذهبت يارا بخيالها إلي يوم التقته و كيف أُعجبت به و بشخصيته و طريقته و بمرور الوقت وقعت في حبه تماماً...

عشق هو طفولة روحها و خفة دمها و طيبتها و كأن يوم طلبها للزواج كان البارحة ، لازالت تذكر ما كانت و كان يرتدي ، و أين كانا يقفان و ماذا قال بالتحديد ... 

تذكرت كيف ذابت الكلمات علي شفتيها و اشتعلت وجنتيها احمراراً و لم تجبه سوي بإيماءة خفيفة من رأسها و هي تنظر إلي الأرض في حياء . و بعد أن انصرف ، هرعت إلي ريم و هي تكاد تجن من السعادة و أخذتا ترقصان لساعات طوال و تتحدثان حتي الصباح و هي تري فرحة قلبها في عيني صاحبتها ، فما كانت تشعر بإحساس إلا و تجد له صدي لدي ريم و كأن لهما قلباً واحد و شعوراً واحد ....

قطع أفكارها صوت شاب بهي الطلعة يقول لها باسما :
- يالا عشان نطفي الشمع يا تيتة
رفعت أحد حاجبيها في استنكار و قالت :
- تيتة في عينك ! دول عشرين سنة بس

فاستغرق الجميع في الضحك من النظرة التي ارتسمت علي وجهها و طريقتها ، و ابتسمت هي ابتسامة واسعة ... 
فمنذ أكملت العشرين ، قررت ألا تكبر عن ذلك لأنها لا و لم تشعر يوما بأنها أكبر من ذلك أبداً ... 
و هاهي أكملت الستين و لا تزال تحتفل بالعشرين من عمرها .

ابنتي








علي ورقة جرائد لطخت بقعات الزيت عليها العنوان المكتوب بالأحمر ..

"وزير الصحة يعلن أن السبب الرئيسي وراء وفاة المصريين هو الأزمات القلبية "

بابتسامة صفراء ساخرة يتأمله و هو يأكل قرص طعمية ضئيل الحجم و المحتوي ..
 - ما هو من الهم اللي بنشوفه .. !

عدة أقراص أخري لازلت باقية ..
معدته التي تئن من جوع البارحة تستحثه أن يلتقمها هنيئا مريئا واحدة وراء الأخري ..
لكن نظرة من عينيه للحجرة التي تكدس فيها أولاده الأربعة تعيد يده الجائعة لمكانها و تلف الورقة علي ما تبقي من فطور أولاده الهزيل..
يعلق بصره للحظات بوجه طفلته الصغيرة النائمة في حضن أمها بدموع جافة علي خديها من أثر بكاء البارحة من شدة مرضها ..
وصفات شعبية بسيطة و بعض المساعدات من الجيران إلي أن هدأت و نامت ..
لكن بلا فائدة .. لابد لها من طبيب و دواء .. و نقود ...

نقود .. 

تنهد في عمق كأنما ذلك هو كل ما يملكه في مواجهة عجزه المحفور علي وجهها ..
سحب بصره بعيدا في حزن ..   التقط جاكته القديم من علي الكرسي الوحيد في الحجرة ..و ارتداه عسي أن يجد بعض الدفء في تلك البرودة القارصة .. لكن بلا فائدة تذكر..
خرج بهدوء من العشة الفقيرة المتوارية في زاوية و الصبح يكاد يلتقط أنفاسه الأولي ...

ظل يمشي و يمشي و يمشي بجسده الاعجف ذا السنوات  الأربعون ..
حزن يرافقه و يسير معه كأنما صديقه منذ خلق ..
هم عشش في غضون عينيه الذابلتين ..
و سؤال كل يوم يطرح نفسه من جديد باستفزاز لا حدود له ..
من أين سيأتي بقوت اليوم ؟؟
من أين سيحضر لهم ما يكفي ليسد به بطونهم الخاوية .. ؟؟
نكس رأسه للأرض في خزي كأنما ذنبه تلك العيشة المعدمة التي يعيشونها ..

و فيما تجره قدماه بحثا عن عمل اليوم اصطدم بصديقه "سيد" الذي تهلل لرؤيته قائلا ..
- ابن حلال والله ، كنت لسه رايحلك ..

بلامبالاة من يعلم أنه لا يوجد اي خبر يستطيع أن يفك اسره من قيود همومه، رد بكلمة واحدة ..
- اشمعني ؟

مد سيد إليه كومة من الجرائد و المجلات و هو يقول ..
- جاتلي شغلانه حلوة في طنطا و لازم أسافرلها حالا و معنديش وقت ابيع دول .. خدهم و حلال عليك المكسب يا عم ..

ابتسامة مريرة علي شفتيه قائلا ..
- ماشي
و أكملها في نفسه .. الحمد لله أحسن من مفيش ..

تناول الجرائد و المجلات بشعور غريب في نفسه أن الجرائد اصبحت تطارده في كل مكان بإلحاح ممل ..
ظل يمشي قليلا حتي وجد ركن خال من البائعين عند أحد الاشارات ..
فرش أمامه الأوراق المتخمة بالعنوايين الحمراء و السوداء ..
أشاح بوجهه عنها كأنما لأخبارها و كُتابها رائحة الفُجر و الرذيلة و القبح المنبعثة من كل سطر في السياسات التي يكتبون عنها ..

مرت فترة ليست بالقليلة إلي أن بدأ الشارع يستعد للنشاط بين الغادين و الرائحين ..

كان قد نال في صغره قسط جيد من التعليم و إن لم يسعفه ذلك في عمل ثابت يدر عليه أي دخل يتعيش منه بعدما صارت البطالة تسكن كل ركن و زاوية في البلد..
و كل ما يفعلونه .. كلام .. كلام .. كلام ...
لا فائدة ..

انتبه لشابان وقفا أمام الجرائد المفروشة أمامه يتجادلان في حدة اجتذبت أنظار الناس و كل منهما يدافع عن وجهة نظره بشراسة حول .. "مين اللي خربها" .. ؟

شتمهما شتيمة "أبيحة" في سره لاعنا من أنجبهما ...
خربها .. !!
من يتحدث عن الخراب لابد أن يكون قد ذاق غيره ..
إنه لا يذكر متي كانت آخر مرة نام فيها مرتاح البال ...
متي كانت آخر مرة لم يشعر فيها بعجزه القاتل يذبح فيه ذبحا أمام احتياجات امرأته و أولاده ..
عن أي خراب يتحدثون و متي رأينا الراحة حتي نميزها عن الخراب .. ؟

 تجاهلهما بكل ما في نفسه من طاقة للصبر ..
لكن ككل شئ في الحياة ..  ما تهرب منه يلحقك ..

التفتا إليه فجأة و كأن كل منهما رأي فيه الدليل الدامغ علي حجته التي يجابه بها الآخر ..
 و انبري أحدهما يصيح في الآخر مشيرا إلي رجل الجرائد ..

- لازم نقول نعم للدستورعشان نبدأ نخطي الخطوة التانية و نبدأ نضمن حقوق الراجل دا إنه يعيش عيشة كويسة و يتعالج و يعلم أولاده

و الآخر يرد بنفس العنف ..
- لا و انت الصادق دا انتوا هتقولوا نعم عشان ترسخوا حكم العسكر و الدولة الأمنية ترجع تاني أسوأ من الأول و الراجل دا مش هيبقى له كرامة في البلد ..

نظر لهما غير مصدق ..

حقا .. !!

ظل محدقا فيهما للحظات ..
أنتم فعلا تصدقون وهم أنكم فكرتم فيّ أو في ملايين غيري في كل ما فعلتم و تفعلون حتي الآن ...

نظرا إليه و هما يلتقطان أنفاسهما منتظرين منه تعليقا ..
لكن رنة تليفونه المحمول العتيق تكسر الصمت اللحظي ..
يرد ..
يسكت لحظات بينما يستمع إلي جاره يخبره أن ابنته في المستشفي ..
- جاي حالا

كلمتان .. كلمتان فقط ..
لم يستطع أن ينطق غيرهما بينما ملامحه تتقطع بسكين العجز و قلة الحيلة ..

ظل الشابان ينظران إليه بنفاذ صبر كأنما ينتظران منه كلمة تحدد مصير الفائز منهما في الجدال ..
يحدق فيهما بعينان حمراوتان تأبي بقايا كرامته أن تترك دموعهما المحتبسة تتدفق ..

يتركهما .. و يمشي ..
دون كلمة واحدة ..
و كل ما كان يفكر فيه ..

هل يوجد دواء دستوري يعيد إلي ابنتي .. ؟


نعمة الفشل




في هذه اللحظة كل ما يخطر ببالي أن اشكر الله علي النعمة لم اقدرها في وقتها ..
و التي لولاها لفقدت اشياء كثيرة جميلة .. و فوتت علي نفسي فرص للحياة لا تعد و لاتحصي..

إنها نعمة الفشل ..

أنا أعني فعلا ما أقول ..
نعمة الا احصل علي كل ما اريد ..
نعمة أن اتألم و أصطدم بحقائق الأشياء و البني آدمين ..

في كل مرة كان يمنع عني الله شيئا كنت اريده بشدة .. كنت اتألم ..
و حين أتألم .. أفكر
و بعد طول التفكير و التقلب في مسالك الحيرة ..
أبدأ اكتشف أن الأمر لم يكن يستحق بالفعل تلك الرغبة الشديدة ..
و حين أوقن صدقا بذلك ..
أجد أن ما كنت أرغب فيه و صرت لا مبالية بوجوده يعود إلي مرة أخري علي طبق من فضة ...
كأن رحمة الله لم تشأ أن تمنع عني شيئا إلا لأجلي ...

في كل مرة .. كل مرة ..
كنت أفشل فيها في الوصول إلي هدفي .. علي شعرة !
كانت دائما هذه الشعرة تعني شيئا مهما ..
و ما كنت لأنتبه لذلك لولا فشلي في الوصول ..

في كل مرة .. كانت تغرق فيها مراكبي ..
كنت أتعلم كيف أبني مراكب أقوي ..
كيف اقاوم بشكل أفضل ..
كيف اصل إلي حقيقة نفسي ..
كيف اتقبل أخطائي ..
كيف أغفر للآخرين ..

في كل خطوة كانت عناية الله تمنع عني لتمنحني فوق ما رغبت و ما تخيلت ..

في كل خطوة للخلف في الحياة .. كنت اتقدم عشرات الخطوات في طريق النضج و النجاح الحقيقي في فهم نفسي و اصلاحها ..

إن أفضل ما انعم الله به عليّ كان الفشل الذي وهبني القدرة علي المقاومة .. و الاصرار .. و ترك الأشكال و التمسك بالجوهر و المضمون ..

و كأني علي نحو غريب أرغب أن اشكر صدقا كل من حاربني يوما لأنه علمني كيف أستطيع أن أتخطاه..

لا تجزعوا من فشلكوا .. لا تنهاروا .. لا تيأسوا ..
إن الناجحين دائما لا يعرفون كيف يلملمون اشلاءهم إذا بعثرها بعد عمر طويل فشل .. سيكون الوقت متأخر كثيرا ليتعلموا كيف يعودون للنجاح ..
افشلوا و انتم صغار ..
افشلوا و قاوموا .. و افشلوا مجددا .. و قاموا و قوموا مرة ثانية و ثالثة و رابعة ..
لا تتركوا فشلكم يمضي دون أن تتعلموا حكمته ..
دون أن تكونوا اقوي و أكثر اصرارا علي أحلامكم ..