الفصل الأول: العائلة (1)




كانت الساعة قد قاربت علي الثانية عشر ظهرا و الشمس ارتفعت لمنتصف السماء و تسللت أشعتها  من خلال الشرفة المفتوحة علي مصراعيها لتضئ الغرفة بنور هادئ لطيف باعثة فيها جواً محبباً إلي النفس و حرارة محتملة . إنعكست تلك الأشعة الذهبية علي وجه " نور " الجالسة أمام المرآة تضفر شعرها بعناية ، فتاة رقيقة في العشرين من عمرها ، ذات وجه جميل كأنما صاغته الملائكة من نور ، بشرة بيضاء صافية مشربة بحمرة خفيفة عينان خضراوتان .. أنف صغير .. شفتان بلون الكرز و شعر بني طويل انتهت من جمعه في ضفيرة خلف ظهرها حينما سمعت صوت طرق علي الباب ثم دخلت " صباح" مدبرة المنزل و قالت بابتسامة جميلة :
- صباح النور يا حبيبتي ، جدك بانتظارك لتفطروا سويا
ردت بابتسامة حلوة :
- سأذهب إليه الآن
ألقت نظرة أخيرة علي نفسها بالمرآة ثم خرجت من الغرفة متوجهة إلي الصالون حيث وجدت جدها جالس مع ابن عمها "باسم" يتناقشان و هما يراجعان بعض الأوراق فقبّلت جدها و حيت باسم ثم قاموا إلي المائدة لتناول الفطور .
انهمك الجد في الحديث مع باسم مكملاً ما كان بينهما من مناقشات حيث كان الجد يمتلك شركة كبيرة لاستيراد و تصدير المحاصيل الزراعية و كان باسم هو الذي يتولي إدارتها فعليا .
أحست نور بالملل من هذه الأحاديث المكررة فتدخلت في الحديث محاولة تغيير دفته قائلة :
- متي سنسافر البلد يا جدو ؟
نظر إليها الجد متعجبا و كأنه لم يكن منتبها لوجودها ثم قال :
- و لم نسافر ؟
- أنسيت يا جدو !! غدا شم النسيم
- ياه ، لقد نسيت فعلا ...
و سكت قليلا مفكراً ثم قال :
- أنا مشغول طوال النهار و يبدو أننا لن نستطيع السفر قبل المغرب
و قبل أن ترد نور عليه ، ارتفع رنين جرس الباب بلا توقف حتي فتحت صباح الباب فدخل منه " عمر " صائحاً في مرح :
- أمازلتم نائمين !!!
لم يسمع ردها أو بالأحري غمغمتها و هو يدخل حجرة السفرة فيقبل يد جده و يحيي باسم بانطلاق ثم ينحني أمام نور انحناءة مسرحية و هو يقول :
- صباح الخير يا جميلة الجميلات
ضحكت نور لقوله و طريقته و بقيت الابتسامة معلقة علي شفتيها و هي تتأمله من طرف خفي ، كان طويل القامة ، رياضي الجسم ، ذا ملامح وسيمة و شعر فاحم السواد يسبغ عليه أناقة أرستقراطية .
حتي الجد بهيبته و وقاره لم يستطع أن يمنع تلك الابتسامة السريعة من أن ترتسم علي شفتيه من أثر حيوية الحياة المتدفقة من حفيده و لكنه ما لبث أن خبأها متصنعا الغضب و هو يقول :
- ما كل هذا الإزعاج ! أيقظت العمارة كلها
فابتسم عمر ابتسامة عريضة و هو يرسم نظرة بريئة علي وجهه رافعاً حاجبيه متصنعا الدهشة و هو يقول :
- و أين هذا الإزعاج يا جدي !! أنا اشعر أني في هدوء الملائكة هذا الصباح
رد الجد في سخرية :
- و ما الذي جاء بك يا حفيدي الملاك ؟
ضحك عمر و قال :
- جئت لأخبر حضرتك أننا سنسافر البلد الآن ، ألن تسافر معنا ؟
- لا ، أنا سأسافر مع باسم بعد المغرب
فلما رأي عمر الضيق ارتسم علي وجه نور ، غمز لها بعينه ثم قال :
- ممكن يا جدي ، نور تسافر معنا الآن
سكت الجد قليلاً و قد تعلقت عينا نور به ثم قال :
- لا مانع
فأسرعت نور تقول و كأنها تخشي أن يرجع جدها عن قوله :
- ربع ساعة و أكون جاهزة

لم تمض نصف ساعة حتي كانت السيارة تنطلق بهم في الطريق و داخلها عمر و بجانبه نور و في الخلف جلس عمها و زوجته . كانت نور تشعر أن قلبها يرقص فرحاً بين ضلوعها ، مترنحاً من أثر النشوة التي سيطرت عليها كونها الآن مع عمر ، أحب الناس و أقربهم إلي قلبها .
كانت تحبه بكل جوارحها ، تحب فيه حيويته و انطلاقه ، شهامته و رجولته ، طيبته و حنانه ... تحب ابتسامته العريضة التي تنقل إليك عدوي السعادة و المرح في ثوان .
تحبه حين يطري جمالها بكلماته الرقيقة المازحة و حين تدفعه الغيرة لأن ينهرها إذا لبست يوما ما يبرز هذا الجمال ، و حين يندفع في مغامراته الطائشة المجنونة ثم يعود إليها هادئاً ، مستكيناً  كطفل عاد إلي حضن أمه بعد أن نال منه التعب ، فيحكي لها ما مر به و يستودعها أسراره .
كانت تشعر أن حبه هو النور الذي يضئ قلبها و السعادة التي تدفئ روحها و تطرد منها ظلال الخوف و الوحدة و الحزن ، دائما ما تستمتع بالحديث معه و الإفضاء إليه بكل ما يشغلها أو يدور ببالها .... هو أقرب الناس إليها و أحنهم عليها و أعلاهم منزلة في قلبها .
لم يصرح لها يوما بحبه و لكنها كانت تشعر أنها لا تحتاج لمثل هذا التصريح، إن المشاعر لا تحتاج للكلمات و إنما هي تفصح عن نفسها واضحة بلا غموض من أشياء كثيرة صغيرة لا يعرفها سوي المحبون ....
 انتبهت من خواطرها علي توقف السيارة أمام البيت الكبير الموجود بالعزبة ، فنزلت من السيارة و دخلت البيت و هي تنظر إليه في فرحة و كأنها تقبل كل جزء فيه. كانت تحب هذا البيت كثيراً بسقفه العالي و حجراته الكثيرة و طرازه القديم لما كان يثيره في نفسها من جميل الخواطر و هي صغيرة، فتتخيل نفسها أميرة جميلة في قصر مسحور .
صعدت إلي غرفتها بالطابق العلوي و ما إن فتحت الباب حتي وجدت في وجهها فتاة لم تتعد الثامنة عشرة من عمرها ، ترتدي جلباب بسيط و قد فوجئت برؤية نور فوقع ما كان في يدها ، فقالت في تلعثم :
- أنا آسفة ... لم أقصد .. كنت سأخرج الآن .. أنا ...
قاطعتها نور و هي تقول ضاحكة محاولة تهدئة روعها :
- من أنت أولاً ؟!
- أنا فاطمة
ثم أردفت مكملة :
- أنا من بلد قريبة من هنا ، و باساعد الست سعدية في البيت
فابتسمت نور و قالت :
- خلاص يا فاطمة ، اذهبي أنت لسعدية و لا يهمك ما وقع
فابتسمت فاطمة ابتسامة صغيرة ثم نزلت السلالم و ذهبت إلي المطبخ ، و ما إن رأتها سعدية حتي قالت لها :
- انتهيتِ من التنظيف ؟
- نعم و لكن ما كدت أخرج من الحجرة حتي فوجئت بفتاة في وجهي
تنهدت و أكملت ضاحكة :
- كاد قلبي يثب من صدري
فابتسمت سعدية و كأنها تستخف بفاطمة ثم قالت :
- أكيد الست نور
فقالت فاطمة في فضول :
- هي أخت الأستاذ عمر الذي حملت حقيبته منذ قليل ؟
- لا ، هي بنت عمه
- و أين أباها و أمها ؟
التفتت إليها سعدية في حدة و قالت بنبرة محذرة :
- أنا لا أحب الكلام الكثير ، لا تتدخلي فيما لا يعنيك
فنظرت إليها فاطمة نظرة استعطاف مليئة بالفضول فتنهدت سعدية ثم قالت :
- حسنا .... و لكن ما سأقوله الآن لن أكرره مرة أخري و لا تتحدثي فيه مع أحد ..... لا أحد يحب أن يذكر هذا الموضوع
 فردت فاطمة في سرعة :
-         طبعاً طبعاً




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي