الفصل التاسع: وهم أم حقيقة (1)






مضي أكثر من أسبوعين علي وجود نور و ياسين في البلد، و انتصف نوفمبر معلنا دخول الشتاء المحمل بعطر زهر البرتقال ... شتاء و إن كانت لياليه قاسية البرودة و لكن نهاره مكلل بشمس دافئة انعكست أشعتها علي أوراق الشجر الأخضر النضر .
و في أحد تلك الأيام المشمسة ، كانت نور جالسة في الحديقة مع جدها بعد تناول الفطور ، و قد انهمك الجد في قراءة الجريدة بينما جلست هي متكورة علي الكرسي و كأنها قطة تستمتع بالكسل الذي يبعثه فيها دفء الشمس التي أنارت الكون في تلك الساعة من الصباح ... أغلقت عينيها نصف إغلاقة و كأنها نائمة .. و إن كانت تستمتع بالنظر من خلال أهدابها التي ارتخت علي عينيها ، قطع عليها تأملاتها صوت جدها يقول :
أين ياسين ، أمازال نائم ؟
ردت بصوت ناعس :
نعم يا جدي ....
ساد السكون مرة أخري و أخذت هي تراقب نملة صغيرة خرجت من بين الحشائش و تسلقت ساق الطاولة في إصرار حتي وصلت إلي سطحها و حملت فتفوتة سكر صغيرة علي ظهرها ، أخذت تنتقل بها علي الطاولة و كأنها تحاول أن تجد طريقة لكي تنزل بها مرة أخري ، و فجأة .. اهتزت النملة و وقعت منها فتفوتة السكر بسبب رنين هاتف جدها الذي تناوله و هو يقول :
آلو ، من ؟
ثريا ! ما أخبارك با بنتي و أخبار عمر و عروسته ؟ أوحشتونا كثيرا
فعلا ! ألف ألف مبروك يا حبيبتي ، ألف مبروك
ثم كتم السماعة بيده و قال لنور :
ثريا بنت عمك حامل
أزاحت عيناها عن النملة بصعوبة و التفتت إلي جدها ثم انتبهت لما قال ، فأسرعت تقول في فرحة :
ما شاء الله ! ألف مبروك
فأعطاها جدها التليفون و هو يشير إليها أن ثريا تريد أن تحدثها ، فأخذت نور التليفون و أخذت تهنئها علي الخبر السعيد ثم قالت ثريا :
و لكِ عندي مفاجأة ، عمر بجانبي و يريد أن يكلمك
اضطربت نور و ارتجف قلبها بين ضلوعها و قبل أن تنطق بكلمة ، سمعت صوت عمر يقول بطريقته المرحة المألوفة :
نور ، وحشتيني جدا جدا
مضت لحظة صمت و قد أحست بحنين لصوت طال غيابه عنها ، ثم قالت بهدوء لا يشف عما يعتمل بنفسها :
و انت والله ، ما أخبارك و أخبار انجي ؟
الحمد لله تمام ، و الله كلكم أوحشتونا جدا
معلش .. ضريبة السفر يا عمر
زفر في ضيق ثم قال و هو يحاول ألا يبدو أي تغير في صوته :
ليتني .. ما سافرت ، الحمد لله علي كل حال
ثم عاد لنبرته المرحة بسرعة و كأنه يهرب من ضيقه و قال :
و أين جدي ؟ أريد أن أكلمه
ثانية واحدة
ثم أعطت لجدها التليفون و هي تشير إليه أن عمر يريد أن يكلمه، فلمحت في عيني جدها نظرة غريبة اختفت بسرعة كما ظهرت ، و كأنه يحاول معرفة أثر المكالمة عليها .. أطرقت إلي الأرض و كأنها هي التي تريد معرفة أثر المكالمة عليها .. .
كانت تشعر بشعور غريب و كأن المفاجأة أوقفت قدرتها علي التفكير ، كمن تعرض لامتحان مفاجئ لم يحسب حسابه و لم يستعد له و لم يدر حتي بإمكانية وقوعه ... ظلت مطرقة تنظر إلي الحشائش و كأنها تحاول ان تستشف دخيلة نفسها ...
أوحشني ؟؟ "
بالطبع أوحشني .. و سررتُ لسماع صوته .. أوحشتني طريقته المرحة التلقائية و حنانه و طيبته اللذان ينعكسان في نبرة صوته ... و لكن ، هل أوحشني كابن عمي .. كصديق .. أخ .. أم أوحشني .... كحبيب طالت غيبته عني !
لم تدر جوابا .. طوال الأيام الماضية و هي تشعر بشعور أقرب للشفاء ، لم يمر طيفه بخيالها إلا لماما ، شغلت وقتها حتي لا تفكر فيه مطلقا ، و نجحت في ذلك .. و ها هي الآن مرت باختبار سريع و لا تستطيع حتي معرفة النتيجة ..
قطع أفكارها صوت ياسين ينادي عليها ، فنظرت إليه و مازالت في عينيها تلك النظرة التائهة ، فقال ياسين ضاحكا :
أين أخذتك أفكارك ؟
هزت رأسها و ضحكت كأنما تنفض تلك الأفكار عن رأسها ، و إن ظلت صامتة و كأنها لا تقوي علي الحديث أو تخشي إن تحرك لسانها أن تنكشف خبيئة نفسها أمامه و هو الذي لا يخفي عليه أمرها أبدا ... ثم راقبت سعدية و هي تحضر له الفطور و قد بدا وسيما في جلبابه الابيض الذي انعكس بياضه علي بشرته الخمرية و عيناه الواسعتان ، فبدا و كأنه لوحة لفلاح مصري أصيل ، فابتسمت لهذا الخاطر ، فابتسم هو لابتسامتها و قال :
ما وراء هذه الابتسامة الحلوة ؟
اتسعت ابتسامتها و قالت :
كنت أفكر أن لو فنان أراد أن يرسم لوحة لفلاح مصري أصيل ، لاختارك بهذا الجلباب الأبيض
ضحك من قولها ثم غمز بعينه و قال :
و لو أن فنان أراد أن يرسم لوحة عن جمال ساحر يخلب الألباب ، لاختارك بلا شك في أي ثوب كنتِ ..
احمرت وجنتيها لكلماته و أخذت تتشاغل بالنظر حولها كعادتها كلما أحست بالخجل ، كادت عيناه تفضحانه و هو ينظر إليها و الحياء قد كللها بسحر يفتن القلوب . أراد أن يهرب من نفسه و ينقذها من حياءها ، فقال مغيرا مجري الحديث :
أعلمتِ أن فرح أخت فاطمة اليوم ؟
نجحت محاولته و قالت نور باهتمام :
نعم ، كانت قد دعتني من يومين و ألحت علي أن أذهب
 سكتت قليلا ثم أكملت :
و بصراحة .. أنا أيضا أريد الذهاب
سكت ياسين قليلا متفكرا ، ثم التفت لجده الذي كان مايزال منهمكا في قراءة الجريدة و قال :
هل ستذهب يا جدي لفرح اخت فاطمة اليوم ؟
لا ، لن أستطيع لأني سأسافر بعد قليل إلي القاهرة لأن باسم يحتاج إلي لأوقع أوراق البيع الخاصة بمحصول البرتقال هذا العام
إذن ، ما رأيك أذهب أنا و نور يا جدي ؟
ظل الجد صامتا و كأنه يقلب الامر في رأسه ، ثم قال :
لا مانع ، و لكن اعتني بها جيدا و خذا معكما سعدية حتي لا تكون نور وحدها
ابتسمت نور في فرحة و قامت قبّلت جدها و هي تقول :
شكرا يا جدي ، سأذهب لأخبر سعدية
ابتسم الجد لفرحتها و عاد لقراءة الجريدة بينما ظلت عينا ياسين تتبعانها حتي اختفت عن ناظره .

بعد العصر بفترة و قبل دخول المغرب بقليل كانوا قد استعدوا للذهاب، كانت المسافة قريبة لا تأخذ أكثر من نصف ساعة سيرا علي الأقدام و لكنهم فضلوا أن يركبوا السيارة . ركبت نور مع ياسين في الخلف بينما ركبت سعدية في الأمام بجانب السواق ، و لم تمض ربع ساعة حتي كانوا قد وصلوا مع آذان المغرب ، فنزلت نور و سعدية و ذهبتا إلي بيت العروسة بينما ذهب ياسين إلي الجامع ليحضر عقد القران .
مشت نور مع سعدية في طريق ضيق وعر ، يحف إحدي جانبيه ترعة صغيرة اختفي سطحها تحت أكوام البوص و الحشائش ، و علي الجانب الآخر بيوت صغيرة متلاصقة أمام بعضها دجاجات بدت و كأنها تلعب مع الصغار الجالسين علي الأرض ، بعد قليل وصلتا إلي بيت ازدان بالأنوار التي أحالت ظلمة الليل ضياء و ارتفعت منه موسيقي صاخبة تكاد تصم الآذان .
كانت فاطمة واقفة تنادي علي بعض الفتيات و تحثهن علي الإسراع و ما إن رأت نور و سعدية حتي أسرعت إليهما و الفرحة تزغرد علي وجهها ، أخذت ترحب بنور أيما ترحيب و هي لا تصدق أنها استطاعت  المجئ . ثم أدخلتهما و أخذت تفسح لهما مكان للجلوس و قد التفتت الأنظار كلها لنور و أخذت النسوة يتهامسن عن تلك الغريبة بينهن و اقتربت احداهن منها قائلة :
انت بنت مين يا عروسة ؟
احمر وجه نور خجلا فهي لم تعتد هذا الجو من قبل و لم تعرف بم ترد ، و لكن فاطمة أنقذتها حينما أسرعت تقول و في صوتها رنة فخر واضحة و بصوت عال كأنها تريد أن تُسمع الباقيات :
حفيدة الحاج عبد الرحمن بيه
ابتسمت نور ابتسامة صغيرة أخفتها بيدها من اللقب الذي قالته فاطمة و جلست علي كرسي موضوع بجانب دكة طويلة جلست عليها سعدية بجانبها . لم تلبث أن جاءت أم فاطمة ، فأخذت نور تهنئها و تثني علي فاطمة التي أنار وجهها من الفرحة ثم أعطت أم العروسة ظرف به مبلغ للعروسة كما أوصاها جدها ، فأخذت تزغرد و تشكرها و لم تملك نور سوي أن  تجاوبها بابتسامة أوسع .
عادت للجلوس مرة أخري بجانب سعدية  و لم تمض دقائق حتي كانت العروس قد حضرت مزدانة بثوب عرس أبيض بسيط و التفت حولها البنات يزغردن و يصفقن في سعادة ، ثم أمسكت إحدي السيدات طبلة و أخذت تنقر عليها بوقع راقص مرددة كلمات مسجوعة تمدح فيها جمال العروس و اختيار العريس لها ، و بدأت البنات الواحدة تلو الأخري تتوسط دائرة الملتفات و ترقص مع العروس متمايلة في مرح و كل واحدة تتفنن في ما عندها من فنون الرقص و الدلال .
بعد مضي بعض الوقت ، انتبهت نور لسعدية تربت علي يدها و تشير لها وسط الصخب أن ياسين في الخارج و أنهم سيغادرون الآن ، فقامت نور من مكانها و هنئت فاطمة و أمها مرة أخيرة ثم خرجت لياسين .
كان الجو في الخارج شديد البرودة خاصة إذا ما قورن بالجو الدافئ المعبق بالأنفاس في الداخل ، أسرعت نور إلي السيارة التي تقف أمام المنزل مباشرة ، ركبت هي و ياسين و سعدية و لكن السيارة أبت أن تدور ، ظلوا يحاولون معها و لكن لم تفلح محاولاتهم فقرر السواق الذهاب للبحث عن ميكانيكي .

ظلت نور في السيارة مع ياسين أكثر من نصف ساعة ، ثم قالت :
ما رأيك نمشي حتي البيت ، الطريق ليس طويلا
قال ياسين بتردد :
لكن .. أخاف عليكِ من البرد
ففتحت نور باب السيارة و هي تقول مشجعة إياه بابتسامة واسعة حلوة :
المشي سيدفئنا
هز رأسه ضاحكا و شعر كأنها ترشوه بابتسامتها الجميلة و لم يرد أن يمتنع عن رغبتها ، فأخبر سعدية أن تنتظر السواق حتي يأتي ثم تأتي معه بعد ذلك .
مشي هو و نور و قد ضمت حول كتفيها شال من الصوف ليقيها البرد ، فنظر إليها ياسين في إشفاق حنون
و قال برقة :
ألم أقل لكِ أن الجو برد عليكِ
هزت رأسها نافية و قالت مبتسمة :
أحيانا أحب لمسة الهواء البارد علي وجهي و احساس الدفء داخلي
فابتسم و طافت عيناه بملامح وجهها للحظة ثم سألها:
احكِ لي إذن ماذا فعلت أنت و سعدية ....؟
فأخذت تحكي له و هما يمشيان عن كل ما حدث منذ تركته هي و سعدية و هو من آن لآخر يعلق علي كلامها و يمازحها .
 ثم صمتا قليلا و ساد سكون لا يقطعه إلا وقع خطواتهما و أزيز حشرات الليل و قد ابتعدا عن مكان الفرح ، و الطريق يمتد أمامهما مظلم لا يضيئه إلا نور القمر الذي استدار و أرسل ضوء تخلل الأشجار المصطفة علي حافة الترعة فانعكست ظلالها علي الطريق فبدا كأنه سجادة كبيرة منقوشة بأوراق الشجر ، لم تلبث أن قطعت نور الصمت و قالت و كأنها تحدث نفسها بأكثر مما تحدثه :
-  سبحان الله .. من ينظر إلي المكان الذي يعيشون فيه ، كم هو ضيق و فقير ... من يعلم مدي عسر حالهم .. و مدي احتياجهم و يري الظروف المحيطة بهم و شدتها .. لا يكاد يصدق نظرة الرضا التي تنير وجوههم من الفرحة .. و كأنهم في لحظة من الزمن نسوا كل شئ .. المكان و الزمان و الحال .. نسوا الفقر و العوز و الحاجة ... من يسمع ضحكاتهم من بعيد يكاد يتخيل أنهم أناس لم يعرفوا الحزن قط .. من يري الفتيات حين رقصن كيف انسجمن مع بعضهن و بدَون و كأنهن مع كل حركة يتمايلن فيها يسقطن أحمال الهموم و يتحررن من كل القيود و خطواتهن تزداد رشاقة كلما انغمسن في الرقص و نسين أو تناسين الدنيا كلها حولهن ... و كأن كل من بالداخل انفصل عن العالم الخارجي .. سبحان الله
غمز ياسين بعينه و قال ممازحا إياها :
واضح أنهن رقصن رقصا جميلا ، لماذا لم تجعليني أدخل معكِ يا نور ؟
 اصطنعت الغضب و هي تقول :
مالك و البنات يا أستاذ ياسين ؟
ضحك من ردة فعلها ، فاغتاظت منه و قالت :
ياسين أنا أتكلم جد
فابتسم ابتسامة واسعة ثم قال و قد وسع الهدوء ملامحه :
لا عجب فيما قلتِ ، السعادة ليست بالبيت الكبير و الثراء الواسع ... السعادة احساس لا يُستمد من الأشياء و الماديات حولنا  إنما هو احساس ينبع من باطننا و نسبغه علي ما حولنا .. احساس نستمده من لحظة رضي بقلوبنا تقلب بيوتنا قصورا و تحيل الشتاء القارص ربيعا و تبعث الدفء في أوصالنا و تخلق الحب و تشعل وهج الحياة داخلنا ، فنحيا و نستمتع باللحظة حتي آخر ذرة فيها ...
و سكت قليلا ثم أكمل :
لعل تلك اللحظة من أكثر اللحظات التي تتجلي فيها رحمة الخالق بعباده .. لحظات ربما تكون قليلة و لكنها تأتي دائما في الوقت المناسب لتطرد الحزن و الهم و السواد .. لتدوم لحظة و لكن لتبقي زادا لهم ما بقي من الحياة .. يستعيدونها كلما اختلوا بأنفسهم و يستنشقون بقايا عطرها الآخاذ و يعيشونها مجددا مرارا و تكرارا داخل أنفسهم و كأنها لم تمضي أبدا ... كأنها باقية للأبد
ظلت نور تنظر إليه قليلا و قد سرح في تأملاته ، ثم ابتسمت و أخذت نفسا عميقا من الهواء البارد و قالت :
و أنا سأظل أحفظ هذه اللحظة بكل ما فيها داخلي و أستعيدها دائما ... أنا سعيدة .. الحمد لله
ارتفع حاجباه تأثرا و طافت عيناه برقيق ملامحها و تاه قليلا في جمالها ، و لكن لم يدم طوافه إلا لحظة ، انتزع نفسه بعدها بصعوبة و إن ود لو بقي عمره كله تائها هكذا في ثنايا وجهها .
و قبل أن يصلا للبيت بقليل جذب انتباههما طفلة صغيرة تتحرك حول منزلها و كأنها تبحث عن شخص ، ثم جلست علي الأرض و كأنها يئست و التفت حول نفسها من شدة البرد . اقتربا منها و ربتت عليها نور في رفق ، فنظرت إليها الطفلة بعينين واسعتين بريئتين ، فقال لها ياسين :
لم تجلسين هنا في البرد ؟
ردت الفتاة بصوت خافت :
أبي في الفرح و أختي ذهبت لاحدي صديقاتها و قالت أنها لن تتأخر و لكني خفت الجلوس وحدي في الداخل
فخلع ياسين الجاكيت الذي يلبسه و وضعه حول كتفيها و قبل أن يقول شيئا ، جاءت أختها و نظرت إليهما في ارتياب ثم جذبت الطفلة من يدها ، فأرادت أن تعيد لياسين الجاكيت فأشار لها بابتسامة واسعة ان احتفظي به ، فردت بابتسامة فرحة و هي تلوح لهما بيدها قبل أن تدخل المنزل و تغلق أختها الباب .
ظلا صامتين للحظات ثم أكملوا المشي ، و لم تمض خمس دقائق حتي كانا قد وصلا و قبل أن يذهب كلا منهما لحجرته ، التفتت نور لياسين فجأة و قالت بصدق حقيقي :
فعلا ، انت من أحسن و أجدع الناس الذين قابلتهم في حياتي ... لم أقابل رجلا قط بمثل رفقك
احمرت أذناه خجلا من كلماتها و من أثر المفاجأة ،لأول مرة لم يدر ما يقول ، شعرت هي بالخجل لسكوته و كأنها أحست فجأة أنها لم يكن ينبغي لها أن تقول ذلك و لكن كانت لا تزال تحت تأثير تصرفه مع تلك الطفلة ، فقالت قاطعة الصمت بابتسامة صغيرة :
تصبح علي خير
لمعت عيناه و هو يقول :
و انت من أهل الخير
و أكمل في نفسه .. " يا أحلي و أرق و أجمل و أنقي من قابلت في حياتي " .
في الوقت الذي آوي فيه كلا منهما إلي فراشه و علي بُعد آلاف الأميال ، كان عمر يجلس في كافيه علي طاولة منزوية في أحد الأركان وحده ، و قد جمدت نظراته و هو يراقب البخار المتصاعد من كوب الشاي أمامه و في ذهنه تتردد الكلمات القاسية التي تبادلها هو و إنجي منذ قليل .... .
مرر يده علي وجهه و كأنه يحاول أن يمحو الصورة من ذهنه ، و يسد أذنيه عن صدي الصوت المتردد فيهما. و لكن هيهات ، تلك المرارة في حلقه و النار المتقدة في صدره لم و لن تترك للهدوء محلا ...
كيف وصلنا إلي هذه المرحلة .. ؟"
سؤال يتكرر بإلحاح مستفز و لا ينفك يعود كل مرة دون إجابة ، أين ذهب الدفء و العشق و وهج الحياة و شغفها ... كيف صرنا إلي ما نحن إليه .. سأمنا .. فانفعلنا .. فثرنا علي بعضنا .. حتي جعلتني أترك لها البيت كله غاضبا .. كيف تتهمني أني لم أعد أحبها .. كيف و أنا لا أرتاح و لا أدخر وسعا و لا جهدا لأسعدها و أحقق لها كل ما تتمناه ... كيف و أنا أكاد أشق الصخر لأجل أن أبني لنا مستقبلا سعيد و مريح ...
هذا مستقبلك أنت ... أنت أهملتني تماما "
قالتها بحدة و انفجرت في البكاء ... قطب حاجبيه أكثر .. كم يؤلمه بكاؤها و يشعره بالعجز .. دمعة واحدة انحدرت من عينيها بددت أدراج الريح كل ما بذله من مجهود و تحمله من مشقة طوال الشهور الماضية ...
كم آلمته كلمتها .. الآن صار مستقبلي وحدي ... و أين الأماني و الوعود .. و مستقبلنا الذي سنبنيه معا ...

طوال اليوم وحدي في المنزل أخاطب الجدران حتي كدت أجن من الوحدة .. أظل منتظرة و منتظرة و منتظرة علي أمل أن تعود لي فتعوضني عن وحدتي و تملأ فراغي .. فأجدك قد عدت متعبا ... تأكل و أنت صامت .. ساعة و تكون ذهبت للنوم .. و كأني تزوجت لأعيش وحدي .. "
ازدادات تقطيبة وجهه حزنا ثقيلا محملا بالعجز ... و ماذا بيده أن يفعل ... ألا تعتقد أنه أيضا معذب بهذا الوضع .. ألا تدرك أنه أيضا يشتاق إليها .. ألا تدرك ألا حل بيديه و أنه يحتاج منها ان تتفهمه لا أن تلومه و تقسو عليه .. كيف لا تشعر بتعبه .. أين دفئها و حنانها عليه ، و مراعاتها لتعبه ...
شعر أنه سيختنق من كثرة التفكير و قلة الحيلة .. لابد و أن يتكلم مع شخص آخر غير نفسه و إلا سيجن ...
أخذ يقلب في تليفونه المحمول بحركة تلقائية ، فوقعت عيناه علي اسم نور .. " نور " ... لم لا ..؟
 كانت و لازالت دوما خير من يفهمني و يقدم لي النصح . نظر في ساعته فوجد الوقت قارب علي منتصف الليل ، تردد قليلا ثم قرر أن يكلمها في الصباح . شعر ببصيص أمل عله يجد عندها حلا .. فدفع الحساب و انصرف .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي