الفصل العاشر: وهم أم حقيقة (2)







في الصباح التالي ، استيقظت نور علي رنين هاتفها المحمول ، فركت عينيها و أدارت رأسها و نظرت إلي التليفون الذي يرن بجانبها .. ظلت تنظر إليه لحظات و هي لم تفق بعد من تأثير النوم حتي انقطع رنينه ، فأغلقت عينيها مرة أخري لتعود للنوم و لكن التليفون عاود الرنين ، فتناولته و ردت بصوت واهن :
آلو ...
أيوه .. نور ، أنا عمر
انتبهت حواسها و اعتدلت في السرير و هي تسمع صوته يقول :
أنا آسف ، يبدو أنك نائمة ... أنا فقط كنت أريد التحدث معك قليلا ..
لا ، لا أبدا .. ممكن عشر دقائق فقط و تكلمني مرة أخري
خذي وقتك ... مع السلامة
ظلت جالسة علي السرير و قد أخذتها المفاجأة  و في رأسها ألف ألف سؤال عن السر وراء هذه المكالمة .. و لم في هذه الساعة المبكرة من الصباح .. !
قامت من مكانها و هي تقول لنفسها " كلها عشر دقائق و أعرف الخبر ... ! "
غسلت وجهها و لمت شعرها في ضفيرة و لم تكد تنتهي حتي رن تليفونها ، فأخذت نفسا عميقا ثم ردت عليه ، فقال لها :
أنا آسف جدا ، أعرف أني تكلمت في وقت مبكر و حرمتك من النوم
فقالت بلهجة حاولت أن تجعلها مرحة لتخفي بها اضطرابها و فضولها :
لا .. لا ، أنا كنت أريد أن أصحو مبكرا ، أنت أسديت لي خدمة
ساد الصمت لحظات و قد اشتعل فضولها لأقصاه ، ثم قال عمر :
أنا فقط شعرت أني بحاجة ماسة لأتكلم مع شخص قريب لي .. و لم أجد أقرب منك
صوتك مخنوق .. مالك يا عمر ؟
زفر في ضيق ثم أخذ يحكي لها ما حدث بينه و بين إنجي ، و صوته يعلو أحيانا من فرط الضيق الذي يعصف به ، ثم ينتبه لنفسه فيخفضه حتي يبدو و كأنه يتكلم من داخل بئر عميق أو كأن شخص يمسك بتلابيبه و يعد عليه أنفاسه ...
انتهي من روايته و ساد الصمت مرة أخري ، فقطعته نور هذه المرة قائلة :
أتريد الحق ؟
طبعا ..
أنا أعذر ضيقك و أعلم أن لك الحق في أن تشعر بعدم التقدير .. و لكن الحق معها أكثر ....
لا تنس أنها غريبة عن بلدها  ، وحيدة دون أهلها ، و لازلتما في الأشهر الأولي للزواج كما أنها هي أيضا قد ضحت بعملها لأجل أن تسافر معك و لأجل أن تحقق أنت أحلامك و كانت تنتظر منك تقديرا مقابل ذلك بأن تكون معها وقت كافي ...
ثم أن الحياة ليست عمل فقط و تأمين مستقبل .. ما فائدة ما تبنيه إن لم تستمتعا به سويا الآن و تعيشا الحياة بكل ما فيها من حب و جمال ..
سكتت نور قليلا و كأنها شعرت للحظة أنها ليست هي التي تتكلم ... أهي حقا التي تنصح عمر بضرورة أن يستمتع بالحياة و الجمال .. ابتسمت ابتسامة صغيرة و قالت في نفسها " يجب أن أمضي وقتا أقل مع ياسين و فلسفته " ...
تنهد عمر في ضيق ، فقالت :
عمر .. أنا نفسي أشعر من كلامك أنك لست مرتاح لهذا الوضع ..
قال في خفوت :
معك حق
ممم ، ألم تفكر أن تعود و تعمل مع جدو ... ؟
سكت تماما و كأنها لمست وترا حساسا في أعماقه ، كانت نفسه راودته بذلك مرات عديدة و اشتاق هو بالفعل للعودة و إن كان يشعر أن كبرياؤه يمنعه خوفا من أن يقال أنه عاد لأنه فشل في الخارج بعد أن عاند طويلا ليسافر ... ، و كأنها قرأت أفكاره فقالت في رفق :
-  أنت بالفعل فعلت ما كنت تطمح إليه .. سافرت و حققت نجاح و حصلت علي ترقية في فترة قصيرة .. لكن ما فائدة ذلك إذا كنت غير مرتاح ... و مادمت تفكر في العودة إلي مصر ، إذن يكون جدك أولي بمجهودك ..
سكت متفكرا فيما طرحته عليه ، ثم قال بصوت أكثر ارتياحا :
أنا سعيد أني كلمتك .. فعلا لقد أراحني الكلام معك
أنا أيضا سعيدة أنك كلمتني ، و صالح انجي يا عمر و لا تتركها هكذا .. لا تنس أنها لازالت عروسة ..
قال بابتسامة واسعة :
طبعا ، طبعا ، و الفضل يرجع لكِ يا أحسن نور في الدنيا ..
لا أدري كيف اشكرك ..
عمر ، لا أحب هذا الكلام .. لا شكر علي لا شئ ..
بل علي أشياء كثيرة و يكفي أني أخذت من وقتك كثيرا ..
لا تشغل بالك ..
شكرا جزيلا يا نور .. أتريدين مني شيئا ؟
شكرا .. سلامتك
مع السلامة
أغلقت التليفون و ظلت تنظر إليه في يدها و كأنها لا تصدق أنها هي التي كانت تتحدث مع عمر ، شعرت و كأنها كانت واقفة تشاهد من بعيد مشهد لا تشارك فيه و لا صلة لها به ... هذه ثاني مرة تكلمه .. سبحان الله .. يوم كانت تموت لتسمع فقط صوته ، كان بعيدا عنها كل البعد و الآن بعد أن نسيته ..
توقفت فجأة عن التفكير " نسيته ؟! " ... هل نسيته حقا .. ؟
ظلت نظراتها ثابتة ، محدقة في الفراغ و كأن الزمن توقف و السؤال يتكرر داخلها ....
نعم ، نسيته .. برز الجواب فجأة في رأسها .. نعم ، نسيته و لم أعد أفكر فيه و لم يعد يشغل بالي ، و حين حدثني لم أشعر بأي عضلة تختلج في قلبي برغم كلامه الحلو ، لم يعد صوته كالسحر يفتني .. لم تعد كلماته مقدسة أظل أفكر فيها و أتذكرها .. حتي بعدما كلمني البارحة ، لم أتذكر المكالمة سوي الآن بعدما كلمني مجددا ...
قطبت حاجبيها و هي تتذكر تلك الأفكار التي كانت تراودها الأيام الماضية ... كانت تشعر أنها نسيت عمر .. لا منذ شغلت وقتها كما حاولت أن تبرر لنفسها نسيانه ، و لكن منذ غاب عنها و انقطع ذكره في حياتها ..    نعم ، تألمت حينما صار لغيرها و ظل الألم مصاحبا لها بعدما سافر .. و لكن بمرور الأيام صار الجرح - الذي ظنته سيظل ينزف للأبد - ملتئما ، و حل محل الألم ملل الفراغ و ضيق الوحدة .... كان قلبها يهمس لها دائما أن النسيان قد حل و أنه صار خاليا و الجرح اندمل ، و لكنها أبت أن تصدقه ، أبت أن تعترف بذلك و أصرت أنها لازالت متألمة لغياب عمر عنها ... أحست أنها لو اعترفت بالنسيان لكان ذلك اعتراف منها بقلة الوفاء و الإخلاص ، كيف تدعي حبه ثم تنساه بهذه السهولة و كأنه لم يسكن يوما قلبها ... 
أنت لم تحبيه حقا .. كنت موهومة "
همست بها نفسها .. فانتظرت من قلبها أن ينبري مدافعا عن نفسه ، رادا عن نفسه التهمة ، و لكنه انزوي في تخاذل و كأنه يعترف بالتهمة الموجهة إليه ...
اغرورقت عيناها بالدموع و هي لأول مرة تواجه نفسها بالحقيقة التي كانت تختبئ خلف مشاعر و أفكار كثيرة و تطل من آن لآخر علي استحياء ..  رددت في يأس " لم أكن أحبه .. " ، علام إذن كان الأمل و الألم .. أمل القرب منه و ألم البعد عنه .. كيف أثق بك مجددا يا قلبي إن أخبرتني دقاتك أني أحببت .. كيف أعلم إن كنت أحببت حقيقة أم أوهمت نفسك لحاجة للحب و الحنان ؟ كيف أعرف الفرق بين الوهم و الحقيقة في الحب و قد كنت تقسم وقتها أنك لم تحب سواه و لم تعشق غيره ...
لم ترحمها نفسها ، فهمست مجددا  " كان قلبك ظمآن فسارع بالارتواء من أول نبع للحنان صادفه ، أنت لم تحبِ عمر ، أنت أحببت حنانه و اهتمامه بكِ .. أحببت الدفء الذي أشاعه في صدرك فطرد الوحشة و الظلماء ، و حينما تألمت .. تألمت ليس لفقده هو و لكن لفقد منبع الحنان و الاهتمام ، تألمت لأنك كنت عالمة بما ينتظرك من وحشة الوحدة " .... .
قامت من مكانها و كأنها لا تجد مهرب من أفكارها و لذع السياط بنفسها ، أنقذها صوت طرق علي الباب و سعدية تخبرها أن الفطور جاهز ، فردت في فتور :
لن أفطر يا سعدية ، لست جائعة
فتحت الدولاب و اختارت فستان صوف أبيض بسيط ، ارتدته و نزلت إلي الحديقة ... اتجهت إلي شجرة التوت القائمة علي حافة الترعة، جلست تحتها مثبتة بصرها علي المياه و في عينيها نظرة حزن و ضيق ... و هي لا تجد مخرجا من دوامة الأفكار التي غرقت فيها ... .
لم تلبث أن شعرت بيد توضع علي كتفها في رقة ، التفتت فوجدته ياسين فابتسمت ابتسامة حزينة خفق لها قلبه فجلس بجانبها و هو يقول متعجبا :
لمَ أري بعينيك حزنا ؟ 
زفرت في ضيق و قالت في خفوت :
لا أدري و لكني أشعر بالضيق من نفسي ...
ارتفع حاجباه تأثرا من صوتها الرقيق الحزين ، فقال بصوت حنون دافئ :
لماذا ؟ ما بك يا.. نور ؟
كاد أن يقول لها بكل ما في نفسه من عشق .. ما بك يا حبيبتي .. 
قالت و كأنها تزيح عبء عن كاهلها :
أشعر إني كنت موهومة .. في موضوع عمر أقصد .. و كأني خلقت حالة كنت في حاجة إليها و عشت فيها
سكتت قليلا ثم أكملت :
بالطبع أنا سعيدة أني عدت لنفسي و صار عمر عندي الآن بمنزلة الأخ و تخلصت مما كنت فيه .. و لكن .. أشعر علي نحو غريب أني كنت موهومة ، و كأني لم أكن أحبه حقا و إنما كنت بحاجة لحنان و عطف و اهتمام وجدتهم لديه ، فملت إليه ثم شعرت أني أحبه و بمضي الأيام صدقت ذلك فعلا لدرجة أني تألمت كل هذا الألم حينما فقدته ..
و ربما أعترف لك الآن أن حزني لم يكن فقط لأنه صار لغيري و لن يكون لي أبدا .. و إنما خالطه حزن الفقد ، حزن اليتم و الوحدة ، و كأني كنت أحتمي بألمي من التفكير في اني عدت وحيدة مجددا بلا حب و اهتمام و حنان ...
أخذت نفسا عميقا و قالت و كأنها تحدث نفسها بأكثر مما تحدثه:
-  تري ما الفارق بين الوهم و الحقيقة في الحب ؟ كيف سأعلم إذا ما أحببت يوما ، أني أحببت صدقا أم هو الوهم مجددا .. ؟
ابتسم ابتسامة واسعة و كأنه يحتضنها بابتسامته ، ثم قال بهدوء :
قد يكون الفرق بين الحب الحقيقي و الوهم شعرة في الظاهر .. لأن أعراضهما واحدة .. رجفة القلب ، اللهفة ، السعادة حين ترين من تتوهمين حبه أو حين تسمعين صوته ، و الغالب أنك تكنين حبا بالفعل لهذا الشخص و لكنك أسأت تفسير هذا الحب و أدخلتيه في طائفة أخري غير تلك التي ينتمي إليها
زفرت في يأس و قالت :
و كيف أعرف و الفرق " شعرة " كما تقول .. !
لا ، الفرق شعرة في الظاهر و لكن في الباطن .. في القلب .. الفرق عظيم ..
من يحب حقيقة لا يكون احتياجه للحب و الحنان و الاهتمام .. احتياجه يكون لأن يعطي حبا و حنانا و دفئا صافيا لا تشوبه شائبة .. احتياج لأن يملأ كل احتياجات حبيبه دون مقابل .. دون انتظار لحب من جانبه ... و لا يعود هناك ثمة اكتراث براحة نفسك و إنما جل ما تطمحين إليه راحة نفسه التي تتحول لتصير نفسك أنت .. نعم .. أنت تتناسين أصلا أن هناك نفسا أخري غيره ...
من يحب حقيقة لا يشتاق ... و كيف يشتاق القلب لساكن لا يبارحه .. و لا يفارقه و لا يغيب عن البال لحظة لينسي ملامحه ليعود فيشتاقها .. إنما الاشتياق للنفوس الأخري الخارجة عنا و ليس لنفسنا ..
من يحب يا نور .. لا يسعد قلبه لابتسامة حبيبه .. و إنما تضئ الدنيا بكل ما فيها رضي و سكينة لابتسامة يبذل كل نفيس و غال لأجلها .. ابتسامة يشعل دفئها كل وهج الحنان المتدفق في قلوب الانسانية مجتمعة ..
تأثر صوته و هو يكمل :
و إذا حزن .. لا يحزن لحزنه .. و إنما تصير مجرد لمعة الحزن في عينيه سكين يذبح دون رحمة و تنقلب كل طاقة في نفسك قوة في محاولة لاخراجه مما هو فيه و يكون أحلي شعور بالرضا إذا نجحت في ذلك ...
من يحب حقيقة لا يسعد قلبه لرؤية من يحب .. و إنما يذوب كيانه كله لقاء نظرة واحدة .. نظرة واحدة يتمني معها لو يكون هو تلك النظرة ثم يفني للعدم ..
من يحب حقيقة يكون هو و الفراغ و اللا شئ .. سواء .. طالما بعيدا عنه ... فإذا ما حضر قربه .. فإنها تكون الحياة ، بكل ما فيها من وهج و شغف و حرية ...
أخذ نفسا عميقا و كأنه يحاول السيطرة علي ارتجافة أعصابه من فيض المشاعر التي انطلقت من عقالها حتي شعر أنه يكاد يقول لها " أحبك أحبك أحبك .. إن الحب لكلمة صغيرة تافهة بجانب عظم ما اشعر به نحوك و ما يتملكني من عشق تجاهك "
أخرج ذلك النفس ببطء ثم قال :
بالطبع حتي الحب الحقيق سيأتي عليه يوم و يذبل إن وجد صدا ، فالحب كبذرة ألقيت علي غير علم منا في تربة خصبة و تظل تنمو و تكبر دون أن ندري حتي نُفاجأ بها يوما زهرة متفتحة في القلب و قد تضوع عطرها الآخاذ .. و لكن إن داستها الأقدام و تُركت .. ماتت مهما كانت حلاوة منظرها و روعة شذاها ..
أعتقد الآن تستطيعين أن تقرري إذا ما أحببت يوما ، إن كنت أحببت حقيقة أم كنت موهومة ..
ابتسمت ابتسامة صغيرة ، خجولة  و نظرت إليه نظرة امتنان عميقة و هي لا تدري ماذا تقول ، أحس بنفسه تذوب من فرط حرارة الحب في قلبه من قوة كلماته و صدقها .. من نظرة عينيها الجميلتين و تلك الفتنة الساحرة في حمرة وجنتيها ... .
فقام من مكانه و كأنه يهرب من نفسه و جذبها من يدها و هو يقول بابتسامة عريضة :
يكفي كلام ، هيا نفطر سويا .. أنا أكاد أموت من الجوع
ضحكت من طريقته المفاجأة و قامت معه ، و مشيا جنبا إلي جنب  ... و في قلب كل منهما ما لا يبديه لصاحبه.

مضي أسبوع آخر علي وجودهما في البلد و قد قارب الشهر علي الاكتمال ، شهر طال فيه وجودهما معا في كل وقت و كل حين ، فلا يفترقان إلا ساعة النوم و بينهما حديث لا ينقطع .. حديث عذب ، سلس ، عن كل ما في الحياة .. عن آلامهما و آمالهما ، عن جميل الخيالات و أقصي الطموحات ، عن واقع العيش ، عن الناس ، عن الحكم و السياسة ، عن الدين ، عن حب الله و رحمته ، عن الفن و الموسيقي ، عن الشعر و الكتب ، عن الحب .. و الحرية و الشغف و ... الحياة ، و كأنهما ينهلان من نبع صاف متدفق ينزل بردا و سلاما علي قلبيهما و لا يرتويان .. .
و في أحد الأيام ، كانا جالسين في الصالة منتظرين جدهما ليتناول معهما الغداء و قد تكورت نور علي كرسي ممسكة في يدها رواية استغرقت في قراءتها .. لم تلبث أن شردت عيناها عن السطور و ظلت تحدق للحظات في الفراغ ، فانتبه ياسين لها و قال مبتسما :
أين ذهب بك الخيال ؟
عادت من شرودها علي صوته و نظرت إليه و قالت :
ليس خيالا ... و إنما بطل الرواية يصور بحثه عن نفسه و كأن بداخله جوهرة مصقولة و لكنه لم يدر كيف يستخدمها حتي عرف نفسه و عرف ما يريد و اكتشف الحياة داخله ...
أشعر و كأني مثله .. كنت أفكر أني تغيرت في الآونة الأخيرة ، و لكني اكتشفت أني لم أتغير و لكني اكتشفت نفسي .. و كأني أصبحت أكثر نضجا و فهما للحياة ..
سعل سعلة بسيطة و قبل أن يرد عليها ، دخل عليهما الجد فقاموا لتناول الطعام ، و فيما هم جالسون قال الجد لياسين :
ألديك ما يشغلك اليوم ؟
لا يا جدي ، لم ؟
أريدك أن تمر معي علي الأرض ، أريد أن أشرف علي بعض الأمور بنفسي لأننا سنسافر نهاية هذا الأسبوع
كتم ياسين نوبة من السعال بيده ثم قال :
حاضر يا جدي
ثم قام الجد بعد أن أنهي طعامه و هو يقول :
سنذهب بعد نصف ساعة
فأومأ له ياسين برأسه فنظرت إليه نور في قلق و قالت :
ما بك يا ياسين ؟ تبدو متعب ...
ابتسم ابتسامة مرهقة و قال :
لا شئ ، برد بسيط .. لا تقلقي
نظرت إليه في حنان و قالت و هي تقوم من مكانها :
سأذهب لأحضر لك دواء
و حينما عادت وجدت ياسين أمسك تليفونه المحمول ، فنظرت إليه متسائلة فقال :
مضت مدة لم أسأل علي دينا ، ففكرت أن أكلمها
و قبل أن ترد عليه أشار لها بيده مستئذنا و هو يقول :
توتة حبيبتي .. أوحشتني جدا جدا
أنا أيضا أريد أن أراك
سأعود آخر الأسبوع إن شاء الله
و ما هو الخبر ؟
فعلا ! ألف ألف مبروك .. أنت بالتأكيد أجدر واحدة بهذه البعثة
ظلت نور واقفة لحظات و هو يتكلم ، ثم تركت الدواء و كوب الماء علي السفرة و صعدت إلي حجرتها و أقفلت الباب وراءها ، استلقت علي السرير و وضعت إحدي ساقيها فوق الأخري و أخذت تهزها في الهواء .
زفرت في ضيق و هي لا تدري لم أحست بالضيق فجأة ، قامت من مكانها و استعاذت بالله من الشيطان الرجيم ، جلست أمام المرآة و فكت شعرها ثم أخذت تجمعه في ضفيرة من جديد .. إنها تحب لون شعرها خاصة حينما تنعكس أشعة الشمس عليه و تشعر أنه يتماشي مع بياض بشرتها ...
تذكرت محادثة ياسين مع دينا فوجدت نفسها تتساءل داخلها ...
هي دينا .. ما لون شعرها ؟ "
أسود "
ما الذي فكرك بها ؟ "
لا شئ ، ربما لأني سمعت ياسين يكلمها .. امممم ، و الشعر الأسود أيضا يتماشي مع جمالها .."
هي ليست بهذا الجمال .. هي عادية "
لا بل هي جميلة و أجمل ما فيها عينيها الواسعتين و ضحكتها و مرحها "
أنا أحبها و لكن ... اممممم .. أتعتقدين أن ياسين يحبها هو الآخر ؟ ... ! "
بالطبع يحبها ، ابنة عمه .. بالطبع يحبها .. "
لا ، أقصد يحبها ، يحبها ... أعني يريد الزواج بها ؟ "
لا أعرف ... "
كانت قد فكت ضفيرتها و أعادت جمعها عدة مرات و قد سرحت في حديثها مع نفسها ، فانتبهت أنها أكملت ضفيرتها و نظرت إلي نفسها في المرآة قليلا ثم قالت .. " و لا يهمني أن أعرف " .
قامت من مكانها و خرجت إلي الشرفة  فوجدت ياسين خارج مع جدها ، فاغتاظت من نفسها .. ما الذي جعلها تتركه هكذا و لم تطمئن حتي أنه تناول دوائه ... " غبية " ...
زفرت في حنق و تجاهلت لوم نفسها و نزلت إلي الصالة ، جلست علي كرسيها و أخذت تكمل قراءة الرواية و كأنها تريد أن تهرب بنفسها من نفسها لتكف عن التفكير ... .
نجحت محاولتها و استغرقت بالفعل في قراءة الرواية و لم تنتبه إلا علي برودة تسللت إليها من النافذة المفتوحة و قد تلونت السماء بلون الشفق و غابت الشمس ، و ظلمة اليل تنتشر رويدا رويدا مختلطة بما تبقي من ضياء النهار ... قامت من مكانها لتغلق النافذة و لكنها فجأة سمعت صوت جلبة ، مدت بصرها فوجدت مجموعة من الرجال قادمين يهرولون و أصوات صياح تنطلق في الأنحاء ... شعرت برهبة .. انقبض قلبها ... تزايد الخوف مع ظلمة الليل المنتشرة التي منعتها من تبين القادمين ، و مع اقترابهم رأتهم يحملون جسدا و ينادون علي البواب ليفتح الباب ... .
انقبضت يدها علي النافذة في رعب ، و اتسعت عيناها محاولة اختراق الظلمة .... يا إلهي ... ، هل .. ؟   جدي .... يا رب ، يا رب .. لا ... يا رب ليس جدي ... يا رب ليس لي غيره .. رأتهم يدخلون من باب الحديقة و جدها مسرع الخطي خلفهم .. تنهدت في ارتياح ، الحمد لله ليس جدي ..
احتبست أنفاسها فجأة ، ليس جدي ، إذن من ... ؟ من .. ؟؟
و فجأة تبينت الجسد المحمول علي الأعناق حينما دخلوا ... تراجعت للوراء و اتسعت حدقتاها من الرعب ..  " ياسين " .. وضعت يدها علي فمها و كأنها تمنع نفسها من الصراخ .. رأتهم يحملونه للدور العلوي و قد تسمرت مكانها .... .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي