سيعود .. ؟






كانت آخر صورة في يدها ...
وضعت بعض الغراء علي عمود النور ...
ثم ألصقتها و هي تمر بأصابعها في شوق و حنو علي ملامح وجهه ..  انقبضت يدها حين اصطدمت بكلمة "مفقود"
تلألأت عيناها بالدموع ... مر ما يقرب من سنة علي غيابه منذ فُقد في أيام الثورة ...
مفقود يا حبيبي .. و انا من بعدك فقيدة ..
مسحت دموعها و هي تطمئن نفسها قائلة ... سيعود
بخطوات هزيلة عادت إلي البيت لتستقبل ابنها الوحيد منه عائدا من مدرسته ...
ظلت كالنحلة طوال اليوم .. تدور في أرجاء المنزل مخترعة أعمال لا وجود لها حتي لا تنفرد بنفسها ..
حتي لا تجالس وحدتها .. و تلتقي بدموعها ..
و في الليل .. حيث الخيالات المرهقة ...
و الأعصاب التلفة ..
و الاحتمالات التي لا حدود لها ...
أمازال حي .. ؟
؟؟
و إذا كان حي ... لماذا لم يعد حتي الآن ؟
 كيف استطاع أن يعيش دوني ...
يعيش .. !
من قال أنه يعيش ..
قد يكون مات ..
تتسع حدقتيها فزعا ...
تشعر بانتفاضة ترج جسدها ..
ثم تنفجر في البكاء ...
فتبكيه و تبكيه و تبكيه ...
و تتخيل جثته .. تارة مضرجة بالدماء ...
و تارة ملقاة في الشارع ..
تتخيل من يحمله بعيدا ...
جثة مجهولة كمئات الجثث ...
ثم يصلون عليه .. و تمشي معهم في جنازته ... بذهول ...
تكاد تسمع صرخاتها أمام قبره و هم يدفنون جسده الحبيب ...
حتي يبتعد ...
فتبكيه و تبكيه و تبكيه ...
حتي ينفطر كبدها حزنا ..
ثم تفيق من خيالات جنازته علي تنهيدة ملتهبة و صوت في قلبها يخبرها أنه ... سيعود ..
سيعود ..
ربما لا يستطيع أن يعود ...
ربما يحتجزونه في نفق ما في أمن الدولة ..
ربما يعذبونه الآن ..
فتعود تبكي صرخات ألمه .. و تشهق من تصورات تعذيبه ...
تضمد جراحه و تمد يدا في الهواء تلمسه ...
فتقع في الفراغ ...
منهارة ...
تزحف في الظلمة حتي ثيابه التي كانت آخر ما لبس ...
تحتضنها بقوة كأنما تضمه ..
تغمر نفسها في رائحته ..
حتي تنام ...
ثم تصحو بأمل جديد ...
ربما سيعود اليوم ...
كل يوم يحمل أمل بأن يعود ..
كل يوم ...

لحية بيضاء ناصعة






هادئا ... خلي البال .. مشي واضعا يديه في جيبه ..
شعر باهتزاز هاتفه المحمول، ألقي نظرة عليه فوجده صديقه الذي ينتظر قدومه ...
كان أمامه شارع واحد و يصل إلي مكان تلك الندوة الدينية الذي دعاه إليها ..
آثر الا يرد عليه ... يكفيه أن استجاب لدعوته و أتي و هو الذي كان راغبا بيوم كسول يستلقي فيه دون حراك ...
عشر دقائق و كان قد وصل عنده ، فلاقاه صديقه بإقبال مرحب ..
لم يكلف نفسه اخراج يديه من جيبه ...
لا يدري ... لديه اليوم مزاج تأملي كسول بامتياز ..
رد علي تحيته بابتسامة ثم استمع له و هو يخبره أنه سيغيب عشر دقائق فقط ليحضر شيئا ثم سيعود ليدخلا سويا ...
أومأ له برأسه أنه سينتظره ها هنا ...
استند إلي سيارة مركونة بجانب الرصيف و أخذ يراقب تلك القطة البنية الصغيرة و هي تموء ...
جائعة ربما ...
بحذر القطط اقتربت من عامل نظافة جالس علي الرصيف المقابل يقضم من سندويتش في يده ..
نظرت إليه نظرة استعطاف ...
فابتسم لها ...
قاطع مقدم صديقه تأمله لذلك المشهد ...
و لكن لمح بطرف عينه قبل أن يدخل المبني ، ذلك العامل يقتطع جزءا من طعامه و يعطيه للقطة الصغيرة و هو يدعك فروها بلطف ...
انفرجت شفتاه عن ابتسامة تحية للموقف الانساني الذي عده نادرة من نوادر الزمن ...
دخل إلي القاعة التي بها الندوة ..
جلس في صف أخير مستمعا للشيخ الوقور ذا اللحية البيضاء الناصعة ..
متحدثا عن الرحمة و التراحم .. و رقي أن يكون تبسمك لأخيك صدقة ...
كان يستمع بنصف أذن ...
و هو يفكر ساخرا ..
لعله أصبح مصابا بمرض لحيو فوبيا ..
فوبيا تصيب من يعتقد أن عميقي الايمان حقا لا يحتاجون إلي اللحي البيضاء الناصعة .. تكفيهم قلوبهم البيضاء النقية ..
انتهي الشيخ من محاضرته ... ثم خرج من القاعة بعد السلام علي محبيه واحدا واحد ..
بإجابات دبلوماسية قصيرة كان يرد علي صديقه الذي تواترت أسئلته عن رأيه في الشيخ الجليل و هما يخرجان من المبني ...
طرق مسامعه لفظ عنيف ... قاس
فنظر متجهما .. وجد اللحية البيضاء الناصعة فوقها فم يقطر سما علي العامل الذي رآه منذ قليل ...
مؤنبا إياه علي عربة النظافة المتسخة التي ارتكنت علي سيارته خادشة سطحها ...
أطرق للأرض في أسي متذكرا قول د/ مصطفي محمود "اذا اردت ان تفهم انسانا فانظر فعله في لحظة اختيار حر وحينئذ سوف تفاجأ تماما فقد تري القديس يزني وقد تري العاهره تصلي,وقد تري الطبيب يشرب السم,وقد تفاجأ بصديقك يطعنك وبعدوك ينقذك وقد تري الخادم سيدا في افعاله والسيد احقر من احقر خادم في اعماله وقد تري ملوكا يرتشون وصعاليك يتصدقون".
غمغم في حزن ...
 الله يرحمك يا دكتور مصطفي

فراشة






شعر متطايرة خصلاته جمعته فوق رأسها في كرة عجيبة لفتها حول فرشاة الألوان ...
بتركيز شديد مالت علي اللوحة أمامها تضع عليها لمساتها الأخيرة ...
بضع دقائق ثم ابتعدت للوراء ..
أخذت تنظر لها من زوايا مختلفة و ابتسامتها تتسع ...
ثم اقتربت مجددا .. و اضافت بعض الرتوش ..
نظرة أخيرة ...
ثم ابتسامة عريضة شملت وجهها الطفولي كله و هي تصفق بيديها ..
"رائعة"
تأملتها لحظات سعيدة بما أنجزته ...
و نشوة متألقة انعكست علي وجهها الذي أشرق ...
كم تسعد حين تكون اللوحة وفقا لما تخيلته تماما ...
ستضعها في منتصف القاعة يوم يتحقق حلمها بإقامة معرضها الخاص ...
شعرت برغبة مفاجئة في الاحتفال ...
فتحت النافذة علي مصراعيها تاركة نور الشمس يتدفق داخلها ...
وضعت قطعتها الموسيقية المفضلة و أخذت تتمايل علي وقعها ...
دائما الفن يجعل روحها تتفتح كفراشة لتوها غادرت شرنقتها ...
شعرت ان كل هذا لا يكفي ...
تحتاج لاحتفال أكبر مع نفسها ...
كلمة سحرية وحيدة صفقت لها في سعادة ...
"تسوق ... ستذهب للتسوق .. "
ثم ستكافئ نفسها بكأس آيس كريم كبير ..
ارتدت ملابسها و هي تشعر أن تلك الفراشة المتفتحة داخلها تطير حولها سابحة في ضوء الشمس ....
تركت شعرها حرا علي كتفيها بعد أن ساوته ...
 ثم تناولت مفاتيحها و خرجت ...
 ظلت تتجول بين المحلات و لم تتجنب كالعادة النظر إلي نفسها في الواجهات ...
كانت راضية تماما علي نحو أعطاها دفعة ثقة عالية ...
أعجبتها قطعة ملابس .. فدخلت إلي المحل الخالي من الزبائن و وقفت تقلب بين أرففه قليلا ..
لم تلبث أن وجدت فجأة فتاة تقف خلفها مرتدية زي المحل ...
ثم قالت لها بلهجة مفتعلة الرقة ...
" احم .... مم .. للأسف كل المقاسات هنا صغيرة ... محلنا الآخر توجد فيه كل المقاسات "
انطفأت فراشتها قليلا و انخفضت أجنحتها في خجل من تعليق الفتاة علي حجمها الذي ورثته عن أباها ...
أرادت أن تكيل لتلك السخيفة بضع لكمات و لكن كانت فراشتها لازالت تحلق فارتأت أن تتجاهلها حفاظا علي مزاجها الرائق ..
ظلت في المحل بضع الوقت معاندة ...
ثم خرجت للخارج ...
أعاد لها استنشاق الهواء بعضا من حيويتها و ابتسامتها الجميلة ...
ثم أسرعت الخطي قليلا مبتعدة و هي تري شابين قادمين نحوها و أحدهما يغمز بعينه معاكسا جمالها ..
خبأت ابتسامتها التي سعدت رغما عنها بمعاكسته ...
ثم رأت صديقه يضحك و تناهي إلي مسامعها ..
" و دي هتعاكسها من أنهي اتجاه دي !! "
توقفت أجنحة فراشتها عن التحليق و هوت إلي الأرض ميتة ...
نظرت إلي الأرض في أسي ..
و في سخرية مريرة فكرت ...
ربما لست فراشة حقا ... لا توجد فراشة في حجمي !