الفصل السادس: نزل الستار







مضت عدة أشهر ابتعد فيهم باسم تماما عن رؤية نور أو التحدث معها إلا أن الموقف كان ما يزال يتردد في ذهنه بكل تفاصيله الموجعة .. لم ينس قط ، لم ينس قط كرامته التي أهينت و كلماتها التي صفعت كبرياؤه .. كان يقود سيارته ذاهبا رغما عنه إلي بيت جده لانهاء بعض الأوراق ، و عاصفة من الاضطرابات لا تهدأ في ذهنه ...
"لا "
 لم تكلف نفسها حتي عناء التفكير .. هكذا بمنتهي السهولة و دون أدني تردد ، رفضت بمنتهي الصلف و الكبرياء و كأنه لا يليق أن يتقدم هو لها ... من تحسب نفسها تلك المغرورة ... إن شئت لتزوجت من هي خير منها مئات المرات...
قطع أفكاره كلاكسات السيارات العالية بعد أن كاد يصطدم بالرصيف لغيابه عن الواقع بأفكاره ، فاعتدل في مجلسه و أخذ نفسا عميقا محاولا السيطرة علي حمم الغضب التي لم تنطفئ حتي الآن ..
و لن تنطفئ .. لن تنطفئ حتي أرد لها صنيعها ... "
غمغم بها في سخط ، لم يكن يوما بالشخص الذي ينسي أو يسامح .. دائما ما يري أن ما يصنع هيبة الانسان هو ردود أفعاله علي أخطاء الناس حوله .. لا تسامح أحدا أخطأ في حقك و إلا لن يتواني عن تكرارها مجددا .. و المرة تلو المرة ستفقد كل احترام لك بين الناس ...
إن رفضها يوجعه ... و لكن ما يوجعه أكثر أنه كان صادقا في كلماته .. كان يفكر صبيحة ذلك اليوم أن عليه أن ينمق كلمات جميلة تخلب لبها و تأسر حواسها و لكنه وجد نفسه يتفوه بكلام ما دار بخلده قط أن يقوله .. لأول مرة ترك قلبه يتكلم دون سلطان .. لأول مرة يصغي لنداءه و يغض الطرف عما يوجبه العقل و تحتمه المصلحة ..
غبي "
قالها في غضب و هو يضغط كلاكس السيارة دون توقف ، و لا يدري إن كان يقصد بها نفسه أم ذلك السائق أمامه....
 فتح نفسه أمامها و هو الذي كان دائما صندوق مغلق هو وحده يمتلك مفتاحه .. تركها تدخل فداست بكلماتها جميل ما كان يحمله قلبه بمنتهي القسوة و الغرور ...
أوقف السيارة و نزل منها متجهما، معقود الحاجبين و هو يدلف إلي العمارة ، هكذا هو دائما كلما مر علي جده منذ ما حدث .. لم يعد يطيق رؤيتها .. لم يعد يستطيع تكليف نفسه ما لا تطيقه بمحادثتها و كأن شيئا لم يكن ... يجب أن تعرف أنها ارتكبت خطأً لابد أن تدفع ثمنه .. و عدم حديثه معها ليس الثمن أبدا ، هذا  مجرد رد فعل علي ردها المهين عليه .. أما الثمن فلا شك سوف تدفعه يوما و سيوجع قلبها مثلما فعلت هي دون أدني شفقة .. يجب أن تعلم أنه ليس بالشخص الهين ...
فوجئ بها في وجهه بعد أن رن جرس الباب و هو سارح ، فدخل دون أن يلقي التحية متصنعاً العجلة .
 أما نور فهزت كتفيها متعجبة و أقفلت الباب ثم ذهبت إلي حجرتها ... لن تحاول مرة أخري أن تكلمه ، لقد تعبت من كثرة المحاولات معه منذ تلك الليلة ... إنها تعلم أن ردها كان فيه شئ من عدم الذوق و أنها ربما لم تراع مشاعره ، و لكنها حاولت بعدها مراراً أن تعتذر له و تبقي علي أواصر المودة بينهما موصولة و لكنه أبي كل الاباء و قابل محاولاتها ببرود سخيف .
"لا يهم "
قالتها بامتعاض و هي تتذكر ردوده السخيفة عليها كلما حاولت أن تكلمه .. أنها حقا لا تهتم و تعلم أنها اتخذت قرارا صائبا من جميع النواحي ... له و لها .. هي لم تكن أبدا لتوافق علي مثل هذه الزيجة و هي تعلم أن عمر مازال يشغل قلبها و يملأ كيانها .. لم تكن لتعطي نفسها فرصة النسيان علي حساب قلب آخر لا ذنب له .
و من ناحية أخري أنها أبدا لم تشعر بأية مشاعر تجاه باسم .. بالعكس لقد كان أقل من أخ .. مجرد ابن عم لها .. لم تكن تختلط به إلا في المناسبات التي تجمع العائلة أو عرضا أثناء وجوده مع جدها في المنزل ، و بشكل عام فإن شخصيته و أهوائه و أفكاره و نمط حياته لا يتوافقان معها .
إنسان غريب "
قالتها في غيظ ، فهي لم تفعل ما تستحق معه هذه المعاملة السخيفة ، كان عليه أن يكون أنضج من ذلك و يتقبل ما حدث بسعة أفق أم أنه يحسب أنه يعاقبها هكذا بحرمانها من شخصه الرائع !
ليفعل ما يشاء ، لم يعد هذا الأمر يشغل بالها الآن .. توقفت فجأة و شخص بصرها و قد استرجعت ما كانت تفكر فيه قبل أن يأتي باسم ....
"عمر" ... تلألأت عيناها بالدموع حين تذكرت .. لم يبق سوي يومان علي الفرح، ليتها تستطيع الهرب إلي مكان لا يعرفها فيه أحد .. ليتهم يرحمون ضعفها و يسمحون لها بالبقاء بعيدا .. ألم يكف تلك الجراح التي ما زالت تدميها و تحرقها ، أم لابد من نحرها .. أم لابد من أن تساق إلي مذبحها و تشهد مقتلها ...
أحقا ستذهب و تراه .. معها .. أحقا ستذهب لتري لمعة الفرح في عينيه و نظراته الوالهة بها  .. تأمله في جمالها .. إحاطة يده بخصرها ...  لتري حنانه ينسكب من روحه عليها ... ثم تشابك أيديهما و رقة أصابعه حول كفها ...
وضعت يدها علي قلبها و كأن تخيل تشابك أيديهما قد عصر قلبها بينهما ... انهمرت الدموع من عينيها في ألم و قد أحنت رأسها إلي الأرض في يأس ... ليتها ما تري شمس ذلك اليوم أبدا و لا تشهد ليله .. لم لا يتركنا الحب في سلام .. لم يُنتزع منا بالآهات و الآلام ، و يزيد الأوجاع علي الأوجاع ...
مسحت  عن وجهها الشاحب حار دموعه ... ما فائدة البكاء ... أنها تعلم أنها ستذهب و لا مفر لها من ذلك ... فلتسأل الله الرحمة فإن بانتظارها ليلة طويلة من العذاب ... .

مر اليومان بأسرع مما توقعت و حلت الليلة التي كانت تخشاها و تحسب حسابها ... كان الشارع الذي توجد به العمارة التي تسكن بها انجي قد امتلأ بالسيارات عن آخره ، و أصوات الكلاكسات المنغمة اختلطت بدوي الزغاريد حين ظهر العريس و عروسه متجهين إلي السيارة المخصصة لهما ، ثم انطلق الموكب .
و في إحدي هذه السيارات كانت نور تراقب من بعيد و تنظر من بين أهدابها و كأنها تتقي ما يمكن أن تراه ، حتي ظهر عمر و انجي ، فلم تستطع أن تنظر ، لم تستطع أبداً .. أشاحت بوجهها مغمضة عينيها في خوف مؤلم ... شعرت بالدموع تندفع اندفاعا يكاد يحطم كل مقاومة لها ، فاستنفرت كل ذرة من كيانها لتحبس الدموع و تخلق ابتسامة زائفة علي شفتيها ...
لن تبكي .. لن تبكي .. أرجوك يا قلبي تجلد ... قد كنت تعلم ما ينتظرك و تحسب حسابه منذ علمت أن من كنت تصبو إليه لم يعد لك .. ما أوردك حتفك إلاك .. أرجوك فاصبر و لا تخذلني ... لا تترنح من الآن ذبيحا بين جنبات صدري .. لا زال أمامنا ليلة طويلة من العذاب .. لا تطلق ذلك الألم الصارخ في كياني  ... أرجوك تحمل .. لا تجعلني أبكي .. لا تجعلني أبكي ...
ظل تعالج نفسها و تحاول الصبر و التجلد ، مكافحة لرسم ابتسامة علي شفتيها حتي وصلوا الفندق المقام به الفرح ..
 بدأت الزفة ، و وقفت مع الواقفين و تشكلت شفتاها بابتسامة جامدة كأنما ألصقتها عمدا علي ملامحها ... ارتفع دق الطبول عاليا يصم الآذان ، و أخذ يشتد مع كل دقيقة أكثر و أكثر .. أعلي و أعلي ... و مع كل دقة تشعر بقلبها ينهار صريعا و يتلوي محموما من فرط العذاب .. ودت لو تطلق أنينا جريحا .. ارحموا قلبي .. أرجوكم ..
ارتفع الصوت أكثر و اشتد الدق و اندمج الناس في الرقص و كأنهم يرقصون علي وقع صرخات قلبها المعذب ... الذي مع كل دقيقة ينهار أكثر و أكثر .. حتي همدت تماما صرخاته مع انتهاء الزفة و لم يبق منه سوي أنين خافت .. أليم .. أنين احتضار ... .
لم تستطع أن تقاوم دموعها أكثر من ذلك ... فأسرعت تبتعد عن الناس مختبئة في زاوية ، و أطلقت العنان لدموعها .. لم تمض دقيقة حتي شعرت بيد تربت علي كتفها في رقة ، فمسحت دموعها بسرعة و التفتت فوجدته ياسين و قد شكل الحزن ملامح وجهه ... وحده كان يرقبها .. وحده سمع صرخات قلبها المعذب و استغاثاته ... و وحده .. جاء إليها ...
عادت دموعها تفيض حين رأته و شعر أنه يود لو يحتضنها بكل ما في نفسه من قوة .. بكل ما في روحه من حنان .. بكل ما في قلبه من حب .. ليته يستطيع أن يجعل رأسها علي صدره ، و يسمعها دقات قلبه لكي تطمأن و هو يمسح علي شعرها في رقة ... لم يستطع .. لم يستطع سوي أن يحتضن كفها الصغيرة بين يديه و كأنها عصفور حط علي كفه .. احتضن يدها بكل ما ما يملك من حنان و رقة و كأنه يخشي ان تذوب بين يديه .. أو لعله خشي علي قلبه هو الذي ذاب من مرأي دموعها ... .
كم يكره تلك الدموع و يعشقها .. كم يكره رؤيتها تبكي و هذا الحزن الدفين بعينيها ... و كم يعشق تلك اللآلئ المتساقطة من أجمل عينين رآهما في حياته .. منسابة علي وجهها الناعم الرقيق ... كم يود لو التقط كل دمعة منها ، فلا تسقط أيا منها إلا بين أصابعه ...
احتضن كفها أكثر في حنان و كأنه يزيد من ضمها إليه ، ثم رفع وجهها إليه برقة و كفكف دمعها بأصابعه ، و أعاد خصلات شعرها إلي مكانها بهدوء ... ثم قال في لهفة جزعة و حرارة كالحمم :
نور
ابتلع ريقه في صمت و هو يشعر أنه يكاد يذوب من فرط اشتعال الحب بقلبه ، ثم قال :
أرجوكي .. يكفي دموعا
و كأنه يود لو قال ... يكفي دموعا يا حبيبتي .. فدموعك تحفر وجداني و تمزق أوصالي من اللهفة عليكِ ... فكفكفت ما تساقط من دموعها ثم قالت في خفوت :
خلاص ... لن أبكي .. لا تقلق
فابتسم في شحوب و هو يرثي لحالها .. و حاله .. ثم أخذ يحاول التخفيف عنها برقيق الكلمات و يحادثها و يداعبها حتي بدأت ابتسامة صغيرة ترتسم علي شفتيها ، فشعر بابتسامتها و كأنها إشراقة الشمس بعد المطر .. و كأنما حملت لقلبه كل الدفء و الحرارة .. و النور ...
ثم قامت لتصلح ما أفسدته الدموع من زينتها و عادت إليه بعد دقائق ، و عادا إلي القاعة سويا ...
 ظلت معه طوال الليلة و كأنها تحتمي به من نفسها .. من قلبها .. و من عذابها ... و ظل معها طوال الليلة يحادثها بأرق الكلمات و يداعبها في خفة ليشغلها عما تحسه .. ليحميها من نفسها .. من قلبها .. و من عذابها .




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي