عبد الكريم






مشي مطأطا الرأس ، معقود الحاجبين و سنوات عمره الستون رسمت تجاعيدها الحزينة في ثنايا وجهه... نظر إلي النيل المتشح بسواد الليل فلا يكاد يبين منه شئ و كأن ظلمته انتقلت إلي صدره فأطبقت عليه واختنق بها ، حاول أن يأخذ نفسا عميقا عله يخفف من غلواء الحزن بنفسه فلم يزدد بعمق تنفسه إلا هما علي همه و سنوات عمره تمضي أمام عينيه و كأنها كانت لحظة و مضت .... .
زوجته و رفيقة دربه رحلت و تركته وحيدا في الدنيا .. بلا يد تحنو عليه أو صدر يضمه و يفضي إليه بما أهمه ..
 و أولاده .. كل شق طريقه في الحياة و انشغل بأمره و قلما يتذكرون هذا الذي كان لهم أبا حانيا ، عمل كل ما بوسعه ليسعدهم و يوفر لهم ما يحتاجونه حتي إذا ما أقبلت الدنيا عليهم أداروا ظهورهم إليه .... حتي أصدقائه معظمهم رحلوا ... 
توقف لحظة عن المشي و كأنه يسأل نفسه .. و أنت ما يبقيك أيها العجوز الشقي .. 
ازدادت تقطيبة جبينه حدة و كأنه يفكر بالفعل في انهاء حياته ... لمح بطرف عينه سلما يفضي إلي النيل مباشرة ، فمشي نحوه و نزل السلم و جلس علي صخرة تمس أطرافها المياه .
وضع يده علي جبينه و أغلق عينيه و كأنه يحاول أن يغمضها عن سواد الأفكار التي تطوف بخاطره .. فجأة شعر بيد تربت علي كتفه ، التفت و قد سرت في جسده قشعريرة ، فرأي شاب متوسط الطول أقرب إلي النحول غامت الظلمة علي معظم ملامحه فلم يتبين منها شيئا .. و قبل أن ينطق بادره الشاب قائلا :
- أتسمح لي أن أجلس معك ؟
ظل صامتا للحظات ثم هز رأسه موافقا  و عاد إلي جلسته الأولي و كأن لم يحدث شئ....
 جلس الشاب علي صخرة أخري بجانبه و ظلا صامتين و كأنهما تمثالين من حجر نحو ساعة حتي قال الشاب بصوت خفيض :
- أنا لا أقصد تدخلا في شئونك ... و لكن .. يبدو أن بك هما شديدا ، لعلك إن تحدثت به ارتحت قليلا
 ظل الرجل صامت لا ينطق و إن كانت لهجة الشاب الحنونة الخفيضة استثارت مكامن الحزن داخله فاهتاجت و أحس بنفسه رغبة في الافضاء بما يثقله و الحديث إليه  ، أخذ يقلب الأمر في رأسه قليلا ثم  بدأ يتحدث و يحكي عما به و عجبا يسترسل في الكلام دون أن يشعر فيعلو صوته حينا غضبا و ينخفض حينا حزنا  .. هكذا .... دون أن يعرف أيا منهما اسم الآخر أو يعلما أي شئ عن بعضهما ...
بل لعل لذة التحدث إلي الغرباء و الافضاء لهم تكمن في أنهم لا يعرفون أي شئ عنا ... لا يعرفون الأشخاص الذين نتحدث عنهم و لن ينقلوا لهم ما قلناه .. لن يحكموا علينا بغلظة أو يغلبوا هويً في أنفسهم علي ما يحق أن يقال ... 
 و كأن تخلصنا مما يثقلنا مع من لا يعرفنا أشبه بإلقاء حجر في بئر عميق ... فلا نحن نريد استعادته و لا البئر سيلفظه ...
انتهي من الحديث و آذان الفجر يتردد في الأنحاء ، ساد السكون بينهما حتي انتهي ثم قال الشاب و قد ارتفع حاجباه تأثرا :
- أنا حقا أشعر بالأسف من أجلك

و ساد الصمت مجددا بينهما لبعض الوقت حتي قال الشاب ببطء :
- أتدري ... أنا لن أبقي في هذه الدنيا أكثر من هذا الأسبوع
التفت إليه الرجل متعجبا ، فأكمل الشاب بابتسامة :
- لدي مرض عضال و أخبرني الطبيب أنه لم يتبق لي سوي بضعة أيام .....
ارتسم الانزعاج علي وجه الرجل و لمعت في عينيه دمعة اشفاقا منه علي شبابه الغض ، ازدادت ابتسامة الشاب اتساعا و ربت علي كتف الرجل و كأنه لم يلق بنبأ فظيع منذ لحظات فاشتدت دهشة الأخير لحاله   ثم بدأ الشاب يروي حكايته :

- ولدت في قرية صغيرة لأم ماتت أثناء إنجابي و أب حنون فقير اضطر للزواج بعدها لكي يجد من ترعاني ... كانت حياتنا صعبة و ازدادت صعوبتها بتصرفات أبي التي كنت أستعجبها  ... كان  يُبقي بالبيت ما يكفينا بالكاد و ما يزيد عن ذلك كان يعطيه لأول طارق .. كنت أتسائل عن ذلك في نفسي و أنا صغير و أحيانا أسأله فلا يرد و يبتسم و يتركني و حين كبرت قليلا و صرت قرابة السادسة عشرة من عمري ثرت علي فعله و انفعلت و أخبرته أننا هكذا سنظل فقراء طوال العمر ... فظل صامتا ثم نظر في عيني بعمق و حنو فهدأت قليلا ثم رفع بصره إلي السماء و قال بخفوت .. يا أكرم الاكرمين ... و لم يمض يومان علي هذا الموقف بيننا حتي كان قد توفي  ...

ابتلع الشاب ريقه ثم أكمل بصوت متأثر :

- و انقلب حال الدنيا بالنسبة إلي ... بعد ما يقرب شهرين من وفاته طردتني زوجة أبي من البيت و استعانت علي باخوتها .. طفت بأقاربي فلم أجد منهم معينا و لا مأوي حتي جن الليل عليّ فوجدتني وحدي .. شريدا في ليلة اشتدت ظلمتها فجلست علي رصيف ضيق ومعدتي تئن من الجوع و ذل الحاجة يوجع كرامتي .... وضعت رأسي بين رجلي و بكيت و تذكرت أبي فاشتد بكائي ثم تذكرت فعله و غضبت منه أن لم يترك لي شيئا يعينني و تذكرت ما كان بيننا قبل وفاته ، فرفعت رأسي إلي السماء و تذكرت كلمته ... و تذكرت كريم فعله .. ما كان أبي يرد طارقا قط ..
 أيردني الله و أنا أطرق بابه و هو أكرم الأكرمين .... أحسست بما يشبه الصدمة .. 
و كأني لأول مرة أفكر في معني الكلمة ... ما رأيت في عمري كريم يرد محتاجا إذا لجأ إليه ... فكيف بالله ... أيردني و أنا في أشد احتياجي إليه ...
 تطلعت إلي السماء بعينين ملئهما الأمل و كانت دموعي ما تزال تنسال علي وجهي .. فرفعت يدي لأمسحها .. ثم تبدت لي فجأة حقيقة غريبة ..
 ظللت أنظر إلي يدي فترة من الوقت ... كان من الممكن أن يخلقني الله من غير يدين .... أو يجعل لي يدان لا تتحركان .. ثم انتبهت أني أنظر إليهما ..
أنا أستطيع أن أري السماء و أن أري يدي .. عيناي تستطيعان البكاء توسلا إلي الله ... أستطيع أن أشهق و أنا أبكي دون أن يكون مع نفسي ألم يخالجني أو ضيق يطبق علي صدري ... أستطيع أن أسمع أصوات الحشرات حتي لا أشعر بالوحدة ..
بدأت أضحك من جنون أفكاري و غريب ما يخالجني من خواطر ..
 قمت واقفا لأنفض عن نفسي هذا الهذيان ... فوجدتني أستطيع الوقوف و المشي و الجري ...
كنت كطفل لأول مرة يكتشف حقيقة الأشياء .. أخذت أضحك علي نفسي و أنا أجري و كأني أجرب قدماي للمرة الأولي ..
 ثم توقفت فجأة و بدأت أبكي ... و اشتد بكائي حين أدركت أن الله اختارني ليجعلني أدرك قيمة ما عندي ... علمت أنه لم يردني .. لا يرد أكرم الأكرمين طارقا ببابه قط ..
 أدركت أنه يراني .. أنه معي .. في هذه اللحظة ينظر إلي .. و كأنه يقول لي .. أأخيرا أدركت عبدي أني أكرم الأكرمين دون أن تشعر .. وهبتك كل شئ و لم تدرك و لم تشكر  .. فما قطعت نعمتي عنك قط .....
كانت دموع الشاب تجري علي خده و هو يقول هذه الكلمات و قد ارتفع حاجبا الرجل تأثرا و امتلأت عيناه بالدموع ، فأكمل الشاب :
- فولله ما أصبح الصباح حتي وجدت صاحبا لي علم بحالي فألحقني بعمل بسيط لدي أبيه و من حال إلي حال تقلبت حتي جئت إلي القاهرة و عملت في مصنع كبير ، حتي علمت يوما بإصابتي بهذا المرض .. حزن لأجلي من يعرفني ... و حزنت أنا في البداية ... و أخذت أسترجع حياتي فحضر هذا الموقف حيا في ذاكرتي .. و اكتشفت أنه ليس هناك ما يستبقيني في الدنيا و شعرت بشعور غريب و كأن شكري لله من الدنيا لا يكفيني .. أنا أريد أن أذهب إليه لأشكره عنده ... فولله ما تركني قط ... أشهد أنه ما ردني قط ...
أخذ الشاب نفسا طويلا ليهدئ من أنفاسه المتلاحقة ثم أكمل :
- أنا لا أدري ماذا يحدث في الموت و لكني تعلمت شيئا واحدا أن الله هو أكرم الاكرمين ... و أنا أعلم أني إذا ذهبت إليه طالبا منه  رضائه و قربه .. فلن يمنعني عنهما ... ما عودني ربي الحرمان أبدا
كانت دموع الرجل تجري علي خده جريانا .. كان يستطيع الآن مع بزوغ الفجر أن يري وجه الشاب و قد علاه الاصفرار و احمرت عيناه من البكاء و بان عليه ضعف المرض ... أخذ الشاب يمسح دموعه ثم ربت علي كتف الرجل قائلا :
- أخبرتك أني أشعر بالأسف لحالك و لكن ليس لما مررت به ... و لكن لأنك عشت من العمر مديدا دون أن تدرك .. دون أن تري ... و مازلت تشكي و أنت لا تدرك و لا تري .. و لو تفقدت حالك و علمت ما أكرمك به الله ما حزنت أبدا ...
شعر الرجل أنه حي .. و كأنه ميت بُعث من جديد ... علي قدر حزنه علي ما فات .. علي قدر توقه لما هو آت ... قطع خواطره قيام الشاب من جانبه و هو يقول باسما :
- لابد لي من الانصراف الآن ، فأنا أقيم مع أحد أصدقائي و لا شك هو قلق علي
ابتسم الرجل ابتسامة شاحبة من بين دموعه ثم قال :
- علي الأقل ، هل لي أن أعرف اسمك ؟
- اسمي عبد الكريم







الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي