حدوتة حقيقية








في زمن بعيد بعيد منذ آلاف السنين .. علي متن مركب خشبية ضعيفة البنيان، وقف رجلان يبدو علي سيماهما الوقور بين الحمالين و الشيالين و التجار و المسافرين الذي ضاق بهم المكان ..
ظلا يتطلعان في سكون نحو الافق و كل منهم مشغول بما جال بفكره و حيره ...
انتبها من تفكيرهما علي تحرك المركب بعتاده و ناسه .. فابتسم الأول (ذا الشعر الأسود) و قال للثاني (ذا الشعر الابيض) :
- أنا حقا متحمس لبدء الرحلة
بابتسامة صغيرة جاوبه :
- بالتأكيد
كان قليل الكلام تبدو عليه الهيبة و الحكمة ..


أخذ المركب يبتعد عن الشاطئ رويدا رويدا .. حتي اختفت كل المعالم و أحاط بهم البحر من كل مكان ...
بحر واسع .. عميق .. مخيف .. بلا بداية و لا نهاية .. و كأنه امتداد السماء الواسعة ..
وقف (ذا الشعر الأسود) على حافة المركب متطلعا إلى الأفق و متسائلا عن مصيره في هذه الرحلة العجيبة ..
زاغ بصره مع الأمواج المتتابعة خلف السفينة و شعر بالدوار .. فآثر الابتعاد عن الحافة

نظر حوله و ، انتبه لغياب (ذا الشعر الأبيض) عن ناظره ..
تعجب في نفسه و أخذ يبحث عنه في كل مكان علي سطح المركب .. لكن دون أثر كانما تبخر ..


صار يسأل البحارة و المسافرين .. لا لم يره أحد !!
هل تركه وحده ؟ 
تجاهل هذا الهاجس السخيف الذي لا معنى له .. فأين سيذهب في هذا البحر الشاسع ..


ظل يحاور مخابئ السفينة حتي وجده قابع في ركن خفي و بيده قطعة حديد قوية ..
اقترب منه في وجل .. و نظر من وراءه فوجد ثقبا كبيرا في أرضية المركب و البحر يبدو من تحتها مخيفا .. عميقا ... تتناثر أمواجه بشدة و عنف .. يبدو مستعدا لابتلاع من تسول له نفسه الاقتراب !


"قال بفزع لا إرادي  .. ماذا تفعل ؟؟ اتريد أن تغرقنا ؟؟"

أشار إليه (ذا الشعر الابيض) بإشارة علي فمه ألا يحدث صوتا ..
ثم قال في خفوت ..
"تذكر الشرط الذي التزمت به .."


نعم ... الشرط .. و ياله من شرط صعب .. و كيف له أن يلتزم به بعد ما رآه !

اضطر ذا الشعر الأسود أن يسكت علي مضض و قد ثار به القلق و أصبح لا يستقر في مكان و هو من حين لآخر يتخيل نفسه غريق في هذا البحر الواسع المخيف . إلي أن اذن الله بوصول المركب بالسلامة للميناء التالي ..

سارع بالنزول حامدا الله علي السلامة و الستر .. و إن كان مهموما لأولئك المساكين الذين خربت سفينتهم .. و حدثته نفسه أن يحذرهم خوفا من أن ينال منهم الغرق في رحلة مقبلة .. لكن نظرة إلى "ذا الشعر الأبيض" جعلته يغلق فمه و يتذكر الشرط الذي التزم به.


مشي الصاحبان و ظلا يتوغلان في المسير حتي دخلا غابة كثيفة الاشجار، محملة بالثمار من كل شكل و لون ..

و ما إن مشيا فيها بضعة أمتار حتى نسى ذا الشعر الأسود ما كان من قلقه من السفينة .. بل نسى نفسه و اسمه من جمال المنظر الخلاب ...
انبهار غير طبيعي بالطبيعة النضرة .. و صوت خرير المياه في جداول صغيرة بينما العصافير تزقزق في خفوت و روعة ..

توقف قليلا أمام عصفور جميل أصفر اللون .. غناءه لا مثيل له ..
كان مبهورا به حقا .. داعب رأسه باصبعه مبتسما .. ثم التفت ليتابع سيره .. فلم يجد أمامه (ذا الشعر الابيض) .. 

شعر بالقلق يساوره و يوقظه من سبات الانبهار بالجمال .. فجوة من القلق انفتحت في قلبه .. آخر مرة غاب فيها الرجل عن عينيه .. وجد فيها مصيبة! 

تقفي أثره  بصعوبة  حتي سمع صوتا خلف شجرة ضخمة .. ثم لمح ظله محنيا على الأرض ..


التف حول الشجرة فوجد (ذا الشعر الابيض) يحفر في الارض حفرة واسعة و أمامه غلام صغير أبيض البشرة .. ناعم الشعر .. جميل كالملائكة .. حاول أن يقترب منه .. فوجده "ميت" .. "مقتول"


ارتد (ذا الشعر الاسود) للوراء في فزع و حدق فيه كأنه مجنون .. ثم صرخ قائلا ..
"أجننت .. كيف تقتل غلام صغير مثله ؟؟ يا إلهي .؟ أي وحش يسكنك .. يا الهي .. يا الهي !!" 


اشار إليه (ذا الشعر الابيض) بنفس الاشارة التي جاوبه بها في السفينة .. ثم قال بهدوء قاتل ..
" هذه آخر مرة أذكرك فيها بالشرط الذي التزمت به"

اضطر (ذا الشعر الاسود) أن يصمت تماما و قد صار لا يعرف ماذا يفعل ..

أعتصر الحزن و الألم  قلبه علي الصغير الذي فارق الحياة .. يا الهي .. أى وحش يصاحبه .. ذلك الذي تخول له نفسه أن يقتل صبيا صغيرا لا ذنب له .. 

أكمل باقي الطريق ساهم لا ينطق .. و هو يجر قدماه جرا ..

و فيما هما خارجان من الغابة رأي من بعيد سيدة تجري بفزع منادية علي طفلها و زوجها أمامها يبحث في كل مكان بمنتهي الانفعال و القلق ..
انقبض قلبه و اعتصره الألم .. و قد خمن أنهما والدا الطفل الصغير ..

ظلا يمشيان في سكون حتي وصلا إلي قرية صغيرة في مكان نائي .. كان التعب قد استبد بهما و لم يتوقفا عن المضي منذ الصباح ..
كانا جائعين و متعبين ..
فدقا أول باب قابلهما طالبين شربة ماء أو كسرة خبز ..
فلم يفتح لهما أحد ... فقال (ذا الشعر الأسود) ..
"لعل ليس به أحد !"
ثم صارا يتنقلان بين أبواب البيوت دون أمل .. فبين من يغلق الأبواب في وجهيهما .. و بين من يدعي أنه غير موجود ببيته .. و من يشيح بوجهه عنهما ..
حتي انتهي بهما المسير إلي ظل حائط مائل .. استراحا إليه بعض الوقت ..
ثم قام (ذا الشعر الابيض) و بدأ بهمة يعمل علي إقامة الحائط المائل و التشديد علي بنيانه و تقويته ..
فصاح به (ذا الشعر الاسود) في استنكار ..
"كان بإمكاننا أن نأخذ عن عملك هذا أجرا نشتري به شربة ماء أو بعض الطعام !!"

هذه المرة لم يرد عليه ذا الشعر الابيض و أكمل عمله ..
ثم ما انتهي حتي أخذه من يده و سارا بعض الوقت حتي وصلا مكان مأهول ..

ثم قال (ذا الشعر الابيض) ...

"هذه نهاية رحلتنا سويا .. لكن قبل أن تذهب .. اعلم أني ما خرقت السفينة لنغرق .. و لكن لأني أردت حماية أصحابها الفقراء من بطش ملك المدينة التي نزلنا بها لكي يعزف عن الاستيلاء علي سفينتهم حين يجد بها عيبا ..

و أني قتلت الغلام لأنه كان سيكبر ليصبح  مفسد عظيم في الأرض، عاق لأهله معذبا لهم بسلوكه الفاجر .. و عسي الله أن يبدلهم خيرا منه ..

و أني لم أطلب مقابلا لترميم الحائط .. لأني لم ارد لأهل القرية أن يعلموا عنه شيئا لأن وراءه كنز عظيم لأحد أهلها الطيبين .. و قد مات و ولداه صغيران .. و أردت أن أحفظ لهما كنزهما حتي يكبرا و يجداه و يستفيدا منه ..

و ما فعلت ذلك من نفسي .. لكنها كانت اوامر الله و وحيه الذي أمرني بذلك فامتثلت .."

بالتأكيد عرفتم ماهية الحدوتة .. الحدوتة الحقيقية التي دائما ما قرأتها بعين الرواية و مشاعر الابطال و أنا اري سيدنا موسي يسير مع الخضر عليه السلام ثم يفزع لرؤية ثقب السفينة و الغلام الميت و يستنكر ترميم حائط المدينة الجاحدة ..


لكن الحقيقة الاكيدة أننا كلنا نعاني من مشكلة سيدنا موسي .. أننا لا نري إلا الحاضر و الآن .. لا نثق بما فيه الكفاية أن الشر الأعظم الذي قد يتجسد يوما أمام أعيننا فنقول هو الأذي الذي ليس بعده اذي .. قد يكون في حقيقته عين الخير و أحسن ما حدث لنا علي الاطلاق ..

الحياة مليئة بالمصاعب و المآسي و الزلازل التي تحيل حياتنا جحيما .. لكن ربما الله في هذه اللحظة يأمر جندي من جنوده بأمر فيه خير عظيم لنا و نحن لا ندري و نستنكر ..
بل ربما كان سيدنا الخضر موجود في زماننا هذا .. من يدري ! ما يعلم جنود ربك إلا هو ..

إن هذه الحدوتة الحقيقية لكفيلة بأن تمنحنا حتي آخر لحظة من عمرنا .. الاطمئنان الكافي و راحة البال .
ثقوا بالله :)


مستنية آرائكم
:)




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي