راقصة







حملت الصندوق الصغير و بنفخة خفيفة أطارت ما عليه من أتربة و هي تتأمله مبتسمة. ..
مرت علي سطحه بحنان و كأنما افتقدته طيلة سنوات طويلة قبع فيها في قاع دولابها ..
بمفتاح صغير فتحت قفله الذي طاله الصدأ، أرجعت غطاءه للوراء و اتسعت ابتسامتها و هي تتأمل أسرارها التي كانت تعدها أسرارا و أقفلت عليها بمفتاح...

أوتوجراف ممتلئ بتمنيات بريئة كتبت بخط أشبه بنتش الفراخ من صديقات عمرها ..
ورقات من هنا و هناك .. قصقصتها من كراساتها .. تحمل ضحكات و رسائل كن يتبادلنها خلسة من وراء المدرسين حين يفرضون حظر تجول و يمنعون الكلام ...

ثم في آخر القاع حيث أعمق أسرارها .. ورقة بالية من باكورة مراهقتها رسمت فيها قلوب حمراء كثيرة .. و بخط منمنم...
 " أعرف أني سأراك يوما يا حبيبي و ستعرفني .. أنا حبيبتك التي انتظرتك كثيرا .. و يومها سأعطيك قلبي الذي احتفظت به لك وحدك"

ثم امضاء في آخر الصفحة ..
 "فرحة"  

ابتسامة مليئة بالكثير من الشجن احتلت شفتيها ..
تأملت الورقة لحظات ثم نظرت إلي دبلة الزواج المستقرة في اصبعها ...

كم من لحظات نضيعها في انتظار ما لا يأتي ... و كم من خيبات أمل نتجرعها ...
لم يكن زوجها سيئا .. طيب ، هادئ الطبع ، محترم ..
و لكن ..

كان بعيدا عما وقر في نفسها من تمنيات .. كان بطبعه شئ من البرود و التصرفات التقليدية ..
لم يستطع أن يروي احتياجها الجارف للحنان و المشاعر الدافئة ..
و هي صاحبة المشاعر الفياضة ..

لم يداعب الطفلة في أعماقها و يلاطفها...
لم تشعر بتلقائيته معها .. فهو انسان تقليدي محافظ بطبعه ..
حاولت أن تعتاد علي ذلك و لم تستطع أن تغيره لما فيها من خجل مفرط بنفسها يمنعها عن أن تطلب منه أكثر مما يقدمه ..

ذكرها ذلك بنصيحة صديقة لها من يومين حين أفضت لها ببعض مكنونات صدرها ..
ألحت عليها أن تتجرأ عن ذلك و ألا تترك للخجل مجالا .. عليها أن تتصرف معه بدلع و شغف الأطفال لكي تحرك تلقائيته ..
أن تتحرر من كل القيود و تترك لأنوثتها أن تستدعي حنانه و مشاعره ..

تنهدت في حيرة و أغلقت الصندوق و قامت لتعيده مكانه ..
فشاغلها في الدولاب .. ايشارب أحمر جميل تتدلي منه عملات ذهبية كثيرة تصنع أصواتا عالية ..
ابتسمت ابتسامة واسعة حيية و قد واتتها فكرة ..

تناولت الايشارب ثم فتحت باب الحجرة بهدوء و نظرت فوجدت زوجها جالس في الصالون يقرأ ..
مشت نحوه بخفة ثم من وراءه طبعت قبلة علي خده ..
نظر لها بتعجب و هو لم يعتد منها ذلك ..
تجاهلت نظرته لئلا يثنيها خجلها عما تنوي ..

ضغطت باصبعها علي زر الكاسيت .. قلبت قليلا حتي وجدت أغنية راقصة ..
لفت الايشارب حول وسطها ..
ثم قالت ..
"أنت لم ترني أرقص أبدا "

 ثم بدأت تتمايل مع النغمات و تندمج مع طبلتها الصاخبة و قد شارك الايشارب برناته في جوها المبهج ...
 و رويدا .. رويدا .. صارت حركاتها أكثر انسيابية و جرأة ..
و شاركت ابتسامتها الفاتنة في اكتمال رقصها رقصا جميلا متقنا ..

نظرت إليه و هي تنتظر أن تقطف نظرات الاعجاب من عينيه ..
فإذا به يحدق فيها بجمود و قد رفع أحد حاجبيه إلي أقصاه ..
توقفت عن الرقص و قد استعجبت ردة فعله ...
فقال ...

أين تعلمت الرقص هكذا ...
تمتمت في ذهول ..
لم أتعلم ..! أنا ..
قاطعها بصوت خشن صارم النبرة ..
أنا كنت أحسبك حيية .. و لهذا اخترتك من بين كل من رأيتهن .. و لكن يبدو أن كلكن واحد ..

ثم أولاها ظهره و هو يقول ...
لا أريد هذه المسخرة مرة أخري في بيتي ...

ظلت تحدق في ظهره العريض المنصرف أمامها ..
و دون أن تشعر ..
حلت الايشارب الأحمر المعقود ..
 ألقته علي الأرض ..
و ألقت نفسها بجواره ..
تلملم بقايا خيبات الأمل ..



 




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي