ذابت الكلمات





قبل اشراقة الشمس بقليل، في ذلك الوقت الندي المعطر بأنفاس الصباح الأولي، رن هاتفها المحمول معلنا الخامسة و النصف صباحا . مدت يدها بوهن النوم إلي الطاولة الملاصقة لسريرها و أطفأته، ظلت لحظات ساهمة و هي تستعيد نفسها من بين أحضان أحلامها الجميلة و دفئها .. 
و رويدا رويدا بدأت تتأمل الحجرة من بين أهدابها المرخية في نعس ثم لمحت اليوم في النتيجة المعلقة علي الحائط ...
 " الثلاثاء" .. 
كفت عن تأملها و ركزت لحظة ثم طافت ابتسامة بشفتيها الرقيقتين .. و فتحت عينيها الجميلتين بلون زرعي سعيد كحشائش صغيرة نضرة ، و أطلت من ملامحها بهجة مشرقة بما ينتظرها ..
 ستراه اليوم ....
أزاحت الغطاء جانبا برغم برودة الجو و قامت من سريرها بتفاؤل أشاع دفئا في نفسها .. ستراه اليوم لا شك و إن لم يكن بينهما موعدا.. 
لقاء دبرته الصدفة و أحكمت هي استمراره بتعمدها المجئ دائما في أوقات تواجده...
 مشت ببطء لذيذ تجاه الحمام ، غسلت وجهها و مشطت شعرها الكستنائي الناعم ثم خرجت و اتجهت ناحية كاسيت قديم صغير و فتحته لتنبعث نغمات أغنيتها المفضلة بكلمات نزار قباني ..
" ... و إنني أحبك ..
دعيني أصب لكي الشاي ... أنت خرافية الحسن هذا الصباح ..
دعيني أترجم بعض كلام المقاعد و هي ترحب فيكي ...
دعيني أعبر عما يدور ببال الفناجين و هي تفكر في شفتيك .. "
ابتسمت و أخذت تتراقص علي نغمات الأغنية و تتخيل لو أنها سمعت منه هذه الكلمات .. 
تدفقت حمرة لطيفة إلي وجنتيها من خيالاتها الجميلة .. ارتدت ملابس بسيطة تنم عن رقة حالها و إن بدت مع ذلك جميلة من دقة ملامحها الرقيقة و حلاوة نفسها المطلة من ثنايا ملامحها و وهج الحب و تشوقه المختبئان في عينيها ..
حملت كتاب صغير في يدها و نزلت إلي الشارع ... 
مشت قليلا حتي وصلت إلي كورنيش النيل ، كانت الشمس قد سطعت منذ وقت ليس ببعيد و انعكست سلاسلها الذهبية المرسلة علي صفحة النيل المنبسط ...
 كم تحب دفء الشمس في نهار الشتاء .. 
يخلق احساس في نفسها شبيه بالكتاكيت الصفراء المتكتلة تحت بقعة الشمس بحثا عن تدفئة زغبها الأصفر الجميل ..
 ابتسمت ابتسامة واسعة من تشبيهاتها الطفولية .. إن أحلي ما في هذا الوقت أنها وحدها في الشارع و الناس نيام .. فلا من يراقبها و لا من يلتقط ابتساماتها المفاجئة ..
بعد قرابة نصف ساعة ، وصلت إلي مكانها المنشود .. دكة خشبية صغيرة استظلت بشجرة كبيرة مليئة ببراعم زهور بنفسجية اللون و وردية .. و أمامها سلم يفضي إلي مشتل صغير علي ضفاف النيل ..
جلست و أخذت تقلب عيناها في الكتاب و قد تاهت في خضم مشاعرها بين السطور ..
 إنها لهفة الانتظار و شوق يستعجل قدومه...
 حتي رأته قادم من بعيد بخطواته الواثقة و صدره المفرود و قامته الممشوقة و شعره المبعثر فوق رأسه في فوضي محببة للنفس تمنت معها كلما رأته لو مدت يدها و عبثت في تلك الخصلات النافرة ...
خفق قلبها في قوة مع اقترابه منها حتي يخيل للرائي من بعيد أنه مقبل عليها حتي إذا صار علي بعد خطوة منها انحرف نازلا السلم إلي المشتل الذي يملكه .. 
نزل و تنفست هي في تنهيدة قوية كأنما تريد لو تحملها له النسمات معبرة عن اشتياقها له .. 
تعجبت في نفسها مما يدور بها و هي التي لم تكن تعرف شيئا عنه ... 
كانت دائما تحب هذا المقعد الخشبي تحت الزهور البنفسجية المتعانقة و تجلس عليه ساعات تقرأ كتاب أو تتأمل صفحة النيل ، حتي رأته يوما و لم يثر بنفسها أكثر مما يفعله أي عابر طريق .. 
ثم بدأت تراه باعتياد كل ثلاثاء .. 
و بدأ الاعتياد يكتسب لذة خفية في انتظاره و متعة حلوة في الاصغاء إلي كلماته التي تسمعها و هي جالسة أمام المشتل ... عرفت عنه عشقه المجنون بالزهور بكل أشكالها و ألوانها .. يتحدث عنها بشغف و حب .. يحفظ أسمائها و يعتني بها أيما اعتناء ..
 ثم علمت أنه مالك المشتل .. صارت مرة بعد مرة تصيغ السمع لما يقول .. ضحكت و هي تتذكر أنها حفظت أوامره لعمال المشتل أكثر مما حفظوها هم .. 
سمعت أحاديثه و مناقشاته مع أصدقائه .. ضحكت علي نكاته و مزاحه و استمتعت معه بأغنيته المفضلة ..
 

" دعيني أصب لكي الشاي .. انت خرافية الحسن هذا الصباح .. "

كانت عيناها علي باب المشتل و إن كانت في عالم آخر سارحة في تأملاتها ، فلم تنتبه لوقع خطواته علي السلم ، و وجدته فجأة علي مقربة منها فاحمر وجهها بشدة و شعرت بنفسها تذوب من فرط الحياء الذي ملك عليها نفسها ، و خبئت نفسها بين صفحات الكتاب ... 
ابتسم هو و قد التقط إحدي نظراتها المختلسة و انتبه لما ألم بها و قد زادتها حمرة وجنتيها فتنة و جمالا .. 
توقف لحظة ثم عاد و نزل السلم مرة أخري و بهدوء و رقة انتقي لها أجمل ورداته و صنع منها باقة تخلب الألباب .. 
صعد السلم و اتجه إليها .. 
انتبهت لاقترابه و ارتبكت و تسارعت خفقات قلبها الذي أسرع يختبئ خجولا بين ضلوعها و يصفق في سعادة علي استحياء .. شعرت بتوتر في معدتها و كأنما تركتها و هبطت إلي قدميها ... 
و بصوته الجميل ألقي عليها تحية الصباح .. 
لم ترد و إن نظرت إليه من خلف الكتاب و كأنها لا تدري أين تختبئ منه .. أو من فوران المشاعر بنفسها ..
 ابتسم هو و لم يرد أن يطيل عليها لئلا يزيد من خجلها فقال بابتسامة حلوة :
- هلا تقبلين مني هذه الباقة من الوردات اللاتي أردن أن يستأنسن بك و يزددن جمالا بنفثات من سحر عينيك و إشراقة ابتسامتك ؟
خفضت بصرها إلي الأرض و هي لا تدري بما ترد ، فقال بعد تردد :
- أنا أراك دائما ، لا يعقل أن تكوني جارة المشتل و لا تقبلي بعضا من ورداته
اتسعت ابتسامتها قليلا و بيد مرتعشة تناولت منه الباقة و ارتجفت أعصابها حينما مست أناملها أطراف أصابعه ، ابتسم و قال :
- هل لي أن أعرف اسمك حتي ؟
رفعت بصرها إليه و قد تقلصت ابتسامتها و شئ من الشجن أطفأ لمعة السعادة التي كانت بعينيها ، انفرج ثغرها قليلا و لكن تاهت الكلمات ..
 اختفت و ذابت علي شفتيها ... 
ضاعت في خضم المشاعر التي استولت عليها .. 
شعر أنه أخطأ علي نحو ما و خاف أن يكون قد ضايقها .. فقال معتذرا :
- أرجو ألا أكون قد ضايقتك ...
ثم أكمل بابتسامة صغيرة :
- لا بأس ، سأتركك مع ورداتي و هن سيخبرنك بكل شئ عني
ابتسمت له و رد ابتسامتها بأوسع منها ، ثم نزل إلي مشتله ...
 و أول ما نزل اقترب منه العامل العجوز بالمشتل و همس له ..
" لا تتضايق يا بني .. لقد حاولت أن أكلمها مرة و أشارت إليّ أنها ... خرساء .. "
اتسعت عيناه و أسرع يصعد السلم قفزا ، و لكن حينما وصل ... لم يجد سوي باقة الورد موضوعة علي الدكة الخشبية الصغيرة ... نظر إلي الرصيف من طرفيه فلم ير لها أثرا ...
جلس علي الدكة في حزن و تأمل الوردات التي نكسن أوراقهن في ذبول من اثر دمعات تساقطت عليهن في صمت . 





الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي