في القلب






جلست علي طاولة صغيرة في ركن قاعة الاستقبال في فندق شهير و أخذت تكتب في كراسة صغيرة في يدها عن حفل الزفاف الذي حضرته منذ قليل ... كلمتين عن الحفل الرائع ،فستان العروسة الوهمي ، ابتسامتها الساحرة و فرحة المدعوين و ستلحق بعدد بعد غد من مجلة " أخبار المجتمع " التي تعمل بها .

رفعت رأسها قليلاً عما تكتب و هي تراقب العروسين و هما يستقلان المصعد و كأنها تحاول أن تستوحي منهما كلمات تنهي بها ما تكتب ... ابتسمت ابتسامة لطيفة و هي تحاول أن تتخيل شعورهما الآن و سعادتهما و هي تراقب وجه العروس الهادئ الرقيق .

قطع عليها أفكارها صوت غناء عالي و رأت شاب يتمايل راقصا علي وقع أغنية صاخبة يغنيها بصوت مزعج و هو يضحك بصوت عال .. أسرع إليه أمن المكان طالبا منه الصمت أو الخروج فلم يرد عليه و أكمل ضحكه الهستيري في فرحة صاخبة و كأنه لا يهتم سوي بما يشعر به من مشاعر عارمة في هذه اللحظة و لا شئ غير ذلك .

 بدأ رجل الأمن يجذبه من يده و هو لا يستطيع أن يقاوم بسبب ضحكه ، ثم أخذ يحاول السيطرة علي نفسه و التقاط أنفاسه و هو يترجي رجل الأمن الصبر عليه ، ثم نظر فجأة إليها و قد سكتت ضحكاته ثم سألها في أدب غريب لا يعكس تصرفه منذ لحظة ...

" أنت الصحفية التي تكتب عن الزفاف ، أليس كذلك ؟ "

أومأت برأسها ايجابا ، حاول أن يجلس علي الكرسي الموجود أمامها فمنعه اعتراض رجل الأمن فالتفت إليها في رجاء حار و قال بتوسل :
" هلا تأتين معي للخارج .. أرجوكِ .. أرجوكِ "

اشتعل فضولها و أشفقت علي توسله فقامت و خرجت معه إلي الحديقة و جلسا علي طاولة في جانبها ، فقال لها :
" أتسمحين لي أن أمليك ما ستكتبين عن العروس .. "

و قبل أن ترد أخذ يقول " كانت العروس ترفل في ثوب زفافها و كأنها ملاك جميل ... أرجوك اكتبي..."
 ظلت ساهمة لحظة ثم أخذت تكتب و هو يكمل ...

 " ملاك جميل اكتسي بثوب بشري لأن الملائكة لا يعيشون بيننا بصورتهم ... ملامح رقيقة ذات تناسق بديع و روح نقيه أطلت من عينيها الساحرتين ... ابتسامتها الخلابة التي تأسر الألباب .. نعومة حركاتها و انسيابيتها أسرت الحضور .. فجمالها و روحها العذبة أشاعا جو غريب من السحر في المكان حتي ليحسب الرائي أن كل ما مست يداها أو وقعت عليه عيناها يكاد ينطق مفتتنا بها ... "

" أنت تحبها "

قالتها فجأة قبل أن تستطيع أن توقفها و ندمت حين جمدت نظراته في ألم ، ثم بلا مقدمات انفجر في نوبة ضحك هستيرية لنحو دقيقة حتي دمعت عيناه و قال بصوت لاهث الأنفاس " أحبها !!!! أفكرتي يوماً أنك تحبين يدك أو أصابعك .. عينيك أو ابتسامتك .. عقلك .. قلبك .. " 
و بصوت أكثر تهدجاً " روحك .. نفسك"
" أنا .. لا أحبها .. أنا لا أدري ما الحب و لا أعرف العشق .. و لكني أعرفها هي .. أعرفها و كأنها أنا أو كأني هي .. لا أعرف الحب و لا الجمال .. لا السعادة و لا التفاؤل .. لا الضحك و لا الأمل .. لا الحزن أو القسوة أو الألم ... لا أعرف إلا هي .. هي كل شئ .. هي هي ... هي أنا .. "

 بدا كطفل حائر يحاول تعلم الكلمات ليعبر عن نفسه و كأنه يبحث عن معني لا وجود له في قواميس اللغات .

" لماذا لم تتزوجا ؟ "

قالتها بصوت خافت دون أن تدري أنها بهمسها أشعلت ناراً في صدره و فجرت براكين الألم التي كان يحاول مداراتها بضحكاته التي انطلقت في جنون و كلماته تكاد تنقلب صرخات معذبة ...

"لم أتزوجها لأني كما قالوا أحبها .. أحبها .. كيف تحبها قبل ان تتزوجها .. بل كيف تتجرأ و تعرفها .. أبعدوها عني و أبعدوني عنها لأني ارتكبت الخطيئة الكبري و الفُجر الاعظم .. أحببتها .. ويلك من فاسق زنديق .. بنات الناس لا يعرفن و لا يجب أن يعرفن هذا الكلام الفارغ وانحراف الأخلاق ...
أنت أفسدت أخلاقها .. لن تتزوجها ... بحُبك لها حُرمت عليك حرمة مؤبدة .. بخطيئتك لن تمسها و ستكون لغيرك "

أصبح يدور الآن في المكان كالمجنون ...
" حبسوها .. ضربوها .. أقفلوا عليها الابواب و سدوا النوافذ و أنا أجن في الخارج .. أكاد أموت و أنا أتخيل دموعها ... قلبي يتفجر فيه ألمها و أوصالي تتقطع من أوجاعها ... وقفت الدنيا في وجهي و حالت بيننا .. سحقاً للمجتمع و التقاليد و الناس الذين أخذوا روحي مني "

انهار علي الأرض و دموعه كالحمم و قد أخفي وجهه بين كفية و كأنه يهرب من صورة بشعة في خياله و بصوت لاهث من الانفعال ...
" أخذوا روحي مني .. أخذوا روحي مني .. أخذوها لغيري .. غيري الآن مع حبيبتي ... حبيبتي .. ينظر إلي جمالها .. يتأمل عينيها .. انفها الدقيق .. وجنتيها .. شفتيها ... "

شعرت بأنفاسه تكاد تنقطع و هو يكمل ...
" يتلمس بيده خصلات شعرها و يمد يده إليها و يضمها إلي صدره ... هي وحدها الآن .. وحدها .. من دوني ... ليس هناك من يدفع عنها يده أو يحول بينها و بينه .. لا أحد سواي يسمع صرخات قلبها المعذب المستغيث .. لا احد يري سوي قسمات وجهها الهادئة .. أنا وحدي أشعر بها .. بألمها و شقاءها و عذابها .. أنا أموت في كل لحظة ألف مرة .. ألف مرة "

أخذ يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة ثم وقع علي الأرض ، نهضت فزعة إليه ثم أسرعت تستنجد برجل الأمن في الداخل ... وضعت يدها علي فمها و كأنها تمنع نفسها من الصراخ و عيناها تبكي دون أن تدري و هي تراهم يحملونه مسرعين إلي حجرة صغيرة و طبيب الفندق يدخل وراءهم .. كاد قلبها يتوقف حتي خرج إليها بعد قليل و قال :
- إنا لله و إنا إليه راجعون .. يبدو أنه كان مصاب بالقلب و انفعل انفعالا شديدا لم يتحمله قلبه ... توفي
اتسعت عيناها في ذهول و وجدت نفسها تتمتم في همس متقطع :
- بل كان مصاب في القلب ... بل كان مصاب .. في القلب 

"مستوحاة من قصة حقيقية"





الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي