حنين





نظرت حنين إلي عقارب ساعتها التي التقت عند الساعة الثالثة عصرا بينما تدخل بخطوات خفيفة شبه راقصة كافيتريا المطار و جلست إلي الطاولة الوحيدة الخالية بإبتسامة جميلة تشع سعادة و لهفة كالأطفال...
ها هي اليوم قادمة لتستقبل خطيبها و حبيبها بعد طول غياب، كم هي صعبة نار البعد و ولع الاشتياق ... كم أوحشها صوته .. نظرة عينيه .. لمسة يده الحنونة .. ابتسامته الجميلة و ضحكاته التي تنير حياتها...
إنها لا تدري كيف إحتملت مدة غيابه السابقة...
كيف أمكنها أن تتنفس هواء لا يحمل عطر انفاسه أو تستسيغ طعاما حلوا دون أن يشاركها إياه ..
كيف لها أن تستمتع بأي منظر جميل أو قطعة موسيقية دون مشاركته الحميمة لها في كل التفاصيل ..
لكنها لن تدع ذلك يتكرر أبدا .. هذا فوق احتمالها ..
هذه المرة لن تدعه يغيب هكذا، لقد أصرت في آخر مكالمة لها معه لها أن يعقدا قرانهما في نهاية هذا الاسبوع، و بعد ذلك إن أراد أن يسافر فسوف تتبعه حتي آخر العالم إن شاء........
إتسعت إبتسامتها أكثر و فاض الحنان من عينيها و هي تتذكر آخر لقاء لها معه قبل أن يسافر . لقد بكت في ذلك اليوم قدر ما بكت طوال عمرها، و أخذت ترجوه ألا يسافر فهي لا تحتمل أن يبتعد عنها يوماً أو يغيب عن ناظرها لحظة.
راعه بكاءها و إنفطر قلبه لمرأي دموعها و لم يملك إلا أن يمسح دموعها بيديه في رقة  و يحتضن كفيها الصغيرين في حنو بالغ و هو يخبرها أنه لن يغيب عنها طويلاً و أن روحها ستكون معه أينما يذهب، و أنها إذا ما إشتد بها الشوق يوماً إلي رؤيته فلتذهب إلي معبد حبهما المقدس في تلك البقعة النائية علي ضفاف النيل .. و لتفكر فيه ، فلسوف تجد روحه حاضرة هناك دائماً تحوطها بحبه و حنانه.....
إنها تذكر تلك الليلة كما لو كانت البارحة ، فهي علي الرغم مما شعرت به يومها من ألم الفراق فإنه لم يمر بها قط ليلة أحلي من تلك الليلة... فقد تدفقت فيها مشاعرهما بمنتهي الصدق و الإخلاص و الحرارة حتي ذاب قلبيهما و امتزجا في روح واحدة ثملة بنشوة الحب و اغداقه ...
قطع أفكارها صوت موسيقي تنبعث من الطاولة المجاورة لها ، فإذا برجل عجوز قد رفع صوت مذياع صغير في يده لكي يتمكن من السماع جيداً فتدفق منه صوت نجاة العذب يشدو ...
"كل غنوة حب فيها حاجة منك ....
كل نسمة فجر بتكلمني عنك..... "
شعرت بالكلمات الممزوجة باللحن الرقيق تنساب عبر روحها و تضئ قلبها بأرق المشاعر و أحلي الاحاسيس ، فقد أعادت لها الأغنية ذكري ذلك اليوم الذي سمعتها فيه و كان قد مضي علي سفر حبيبها اسبوعاً كاملاً تقلبت فيه علي جمرات الشوق ، فأهاجت فيها مشاعر الحنين .. و لم تجد منفذاً من المشاعر التي تضنيها سوي أن تكتب ما يعتمل داخلها من نيران الشوق في ورقة وجدتها أمامها.
ترقرق الدمع في عينيها و هي تتذكر ذلك اليوم.... فتحت حقيبتها و أخرجت منها تلك الورقة ، فهي كانت قد أحضرتها معها لتريها له دليلاً علي مدي عذابها في بعده ، تنهدت تنهيدة حارة قوية ... لم تلبث أن فتحت الورقة و اخذت تقرأ :
" حبيبي ..
أين أنت مني .. اين صوتك الدافئ الذي يحتويني و يشملني و يضمني في ألف ألف حضن لألف عام من المشاعر ..
أتعلم ... حينما تكون قربي و بقايا وجودك الرجولي الجميل و تفاصيلك حاضرة في حياتي ، أشعر كأن نارا دافئة منيرة أوقدت في قلبي باعثة فيّ حب الحياة و السعادة و الشغف و الأمل ..
و أكتفي بك عن كل العالم خارجك ..
و حين تبتعد ... أظل أحيا علي ذكري وجودك حتي تبدأ تلك النار في الخفوت قليلا قليلا حتي لا يبقي منها سوي جمرات خافتة تنبض في همس تحت الرماد منادية باسمك ...
أين انت مني ..
كيف استطعت ان تبتعد ..
لا .. لا تحزن فوالله ليس ذلك مني طعنا في مقدار حبك بقدر ما هو تعجب من مقدار تحملك و أنا التي لحظت انطلقت بالطائرة بعيدا رفرف قلبي وراءك كعصفور صغير منزوع الريش فقد عشه و امانه ..
حبيبي .. يا أماني و ملاذي .. يا أحلي ما أنعم الله به عليّ ..
يكفي ابتعاد و حرمان .. عد إلي .. إلي حبيبتك التي لا حياة لها بدونك ..
عد لتحميني من ألمي و وحدتي بعدك .. عد إليً .. فلا أهل و لا أحباب دونك ..
أين انت مني .. يا حبيبي ؟"
أنهت قراءة الورقة و قد سالت دموعها ، فحاولت أن تتشاغل عما بها ...
نظرت إلي الساعة فوجدتها قاربت علي السادسة و النصف فإندهشت.... إن الطائرة كان من المفترض أن تصل في الخامسة، فكيف لم تأت حتي الآن.... ؟!!
نادت النادل و سألته عن ذلك فأخبرها أن هذه الرحلة أُلغيت بسبب سوء الأحوال الجوية...
 شعرت بالدنيا تميد تحت قدميها و بخنجر يطعن أحلامها في قسوة فيتركها اشلاء مشتتة...
مضت لحظات لم تنبس خلالها ببنت شفة و كأنما فقدت القدرة علي النطق
ببطء إستجمعت قواها و غادرت....
بعينان ساهمتان بشرود في اللا شئ ..
بتثاقل في خطوتها و تهدل في كتفيها ...
و الحزن حفر اقسي آياته علي وجهها ...
كانت عينا الرجل العجوز الجالس بالقرب منها تراقبانها منذ دلفت إلي المكان و حتي إنصرفت ، فإندهش لحالها و تعجب ، و أحس بفضول لكشف غموضها، فنادي النادل و سأله:
-        مال هذه الفتاة ، دخلت بخطوات راقصة و تفاؤل سعيد و انصرفت بهم الدنيا كله فوق كتفيها؟
هز النادل رأسه في حزن و أسف و هو يجيب :
-        مسكينة ..... فمنذ ثلاث سنوات ، في نفس هذا اليوم ، كانت تنتظر وصول خطيبها ، و لكن الطائرة التي كان عليها هَوَت و تحطمت و لم يجدوا جثته فإعتبروه مفقوداً.....
و من يومها ، و هي تجئ كل سنة في نفس اليوم و الساعة تنتظر وصوله عله يأتي ... إلي أن أُخبرها أن الطائرة لن تجئ فتنصرف مكسورة القلب و الخاطر 

http://www.facebook.com/Hendiiaa




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي