بينوكيو





/ نسمة .. غنية عن التعريف طبعا"

هكذا قدمها بابتسامة عريضة و صوته الجهوري الأجش لرئيس مجلس إدارة واحدة من أكبر الشركات العالمية العملاقة، ردت بابتسامة مرسومة على شفتيها و هى تصافحه بترحاب، ثم تتخذ مجلسها على الطاولة الأنيقة في المطعم المطل على النيل مباشرة.
غداء عمل آخر كواحد من مئات .. محامية قديرة تشهد لها الأوساط بالحنكة و الذكاء .. خبيرة لا يشق لها غبار برغم أنها لازالت في أوائل الثلاثينات من عمرها .. جميلة ذات شعر طويل يصل إلى خصرها .. عينان واسعتان ... و فم دقيق رقيق لا يتناسب مع الكلمات القانونية الكبيرة التي يطلق سهامها أحيانا ..

بدأ عميلها الملياردير يعرض مشكلته بهدوء بينما مازال يثني عليها ذلك الواسطة بينهما بكلمة بين الحين و الآخر ..
كم تتمنى لو تسكته قليلا .. !
استمعت في هدوء مصغي .. و هى تلقي بتعليقات مناسبة مختصرة ..

انقطع كلامهما بضعة دقائق بينما النادل الأنيق يحضر ما طلبوه منذ قليل ..
سهمت للحظات خلف طفلة بريئة ذات شعر في صفرة الشمس و خدود محمرة و ضحكة رائعة .. للحظة تساءلت .. هل كبرت حقا !
انصرف النادل فعادت لتركيزها مع الرجل حتى انتهى .. أخذت ملاحظاتها .. تحدثت معه قليلا .. بعض كلمات المجاملة .. ثم انصرف كل منهما إلى طريقه .

ركبت سيارتها .. لم تنطلق مباشرة .. أراحت رأسها للوراء في ارهاق .. بإمكانها أن تريح وجهها قليلا من قناع الابتسام الدائم .. لم تنم منذ البارحة .. الارق ما عاد يترك لها ليلة هانئة ... التفكير أصبح مهمة مرهقة لا تنتهي .. مهما حاولت التخلص منها .. يبدو كما لو أن شخصا آخر أصبح يعيش معها في مخها و يمثل كل ليلة فيلم "لا انام" !

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها من التشبيه .. فتذكرت ضحكة الصغيرة في المطعم .. ترى متى كانت آخر مرة ضحكت فيها من قلبها مثل الأطفال .. متى كانت آخر مرة فكت حبس الطفلة التي تسكنها و سمحت لها ان ترتكب كل الحماقات التي تشتهيها ..
متى كانت آخر مرة نامت فيها بعمق الأطفال و نالت بعضا من حلاوة أحلامهم .. أو براءة فرحتهم العارمة بقطعة حلوى و شغفهم الدافئ باكتشاف الحياة ..
أطرقت للأرض في صمت ثم همست ..
"الحمد لله"
تعلم أنها نالت نجاح يتمناه الجميع .. لكن ما فائدة النجاح حقا إن لم نكن سعداء ..
تهربت من إجابة السؤال بأن أدارت مفتاح السيارة منطلقة إلى المكتب ..
-------

مرت ساعات اليوم سريعا ، و بنهاية النهار رن تليفونها من صديقتها المفضلة ..
ردت على عجالة ... فوجدت صوتها الحماسي يقول ..
"حبيبتيييي .. مساءووو .. شو أخبارك يا حلوة"
لم تملك أن تمنع ابتسامتها العريضة بالرغم من تعبها لصوت صديقتها المحببة و هى تتصنع اللهجة اللبنانية كما تعودتا ..
ردت عليها بمثلها بابتسامة مرهقة ..
" و الله مو منيحة يا حلوة "
" ليش هيك حبيبتيي "
" والله عندي اشيا كتيرة لازم خلصها الليلة "
ضحكت صديقتها و قد تخلت عن اللهجة اللبنانية قائلة " و انتي من امتى مكانش عندك حجات كتيرة تخلصيها"
و كأنما أطلقت سهما اصاب وترا حساسا في أعماقها .. سهمت و هى تهمس .. كأنما لنفسها .. "من كتير"
لم تنتبه صديقتها و هى تكمل .. "عندي ليكي خبر حلو .. فرقة الباليه اللي حضرتيلهم من سنتين و عجبوكي أوي .. هيعملوا عرض بكرا و حجزتلنا تذكرتين :D  "
انتابتها دفقة سعادة و هى تقول .. "فعلا!"
ثم انطفأت السعادة بينما تذكرت في احباط .. "لكن بكره .. عندي اجتماع مهم .."
ساد الصمت بينهما قليلا .. ثم قالت صديقتها ..
"انتي وحشتيني .. مش وحشتيني عايزة أشوفك .. لكن وحشتيني انتي انتي .. صاحبتي الحقيقية .. وحشتني .. أوي أوي .. ارجعي لو سمحتي و كفاية غيبة .."
صمتت .. ثم بصوت مبتسم حزين .. "حاضر :)"
"الحفلة بكره الساعة 6 .. سلام"

أغلقت الهاتف .. كان هذا آخر ما ينقصها!
صار لها فترة .. تفكر في الأمر .. لم تعد تعرف نفسها .. لم تعد تقوم بأى شئ تحبه .. فقدت حسها الفكاهي الذي اشتهرت به زمانا .. لم يعد وراءها سوى الشهرة عن ذكاءها و عقليتها الألمعية .. صار تعريفها .. المحامية المشهورة .. دكتورة فلانة .. الغنية عن التعريف ..
أى تعريف ! هل هذا هو التعريف الذي يجسد حقيقتها ..
ما فائدة النجاح إذا لم أكن سعيدة ..
لكن كيف يمكنني أن اضحي بكل ما وصلت له ..؟
انبرى قلبها في سخرية قائلا .. "فعلا كيف تضحين بكل التعاسة التي تحملتيها لتصلي إلى التعاسة المثالية وسط اوراقك المهمة .."
اندفع عقلها مدافعا .. لا .. الحقيقة أنك لا تعرفين كيف تجدين السعادة .. انت خائفة من أن تتركي النجاح .. لأنك لا تعرفين ما ستجدين دونه ..

رد القلب بكلمته الأخيرة .. لا بل أنتي خائفة ان تفقدي مظهر السعادة التي يحسدك الناس عليها .. تفضلين أن تعيشي عروس خشبية مثل بينوكيو بابتسامة مرسومة و وجه ملون بدلا من أن تعودي بشرية تواجه الحياة بكل مصاعبها و تستمتع بمباهجها..
أنهت الصراع بقرص بنادول لهذا الصداع الذي لا ينتهي ..
------
صباح معتاد بعينان تخبئ سوادهما بأدوات مكياجها الغالية، راجعت جدولها سريعا .. ثم تناولت شنطتها مسرعة و نزلت من البيت ..
كان الجو رائع .. لسعات هواء باردة و شمس مشرقة .. كل ما ينقصه جلسة هادئة في مكان مفتوح و كوب قهوة عميق الرائحة ..
لم تستطع أن تبتهج و هى تعلم أنها في طريقها إلى مكتبها المغلق ..
توقفت في الاشارة .. الطريق مازال مزدحم .. زفرت في ملل ..
"امتى الاجازة تيجي و نرتاح من زحمة المدارس"

سهمت قليلا ثم تناهى إلى مسامعها حديث محتدم بين طفلة في العاشرة من عمرها و أمها في السيارة المجاورة .. و الطفلة تقول في اصرار ..
"أنا عايزة اروح مدرسة تانية يا مامي .. أنا مش مبسوطة في المدرسة دي"
" يا حبيبتي كل المدارس زى بعض"
" لاء .. المدرسة دي وحشة "
" هتروحي مدرسة تانية و تقولي نفس الكلام .. ايه اللي عرفك انك هتتبسطي في المدرسة الجديدة"
" معرفش .. لكن أنا عارفة كويس إني مش مبسوطة في المدرسة دي"

انقطع عنها خيط الكلام حين انفتحت الاشارة .. ظلت مشدوهة في مكانها بعض الشئ .. حتى انتبهت لكلاكسات السيارات وراءها فتحركت ..
بمنتهى البساطة .. أجابتها ذات العشرة الأعوام عن السؤال الذي لم تستطع أن تجيب عنه سنواتها الثلاثون ...
وصلت مكتبها و هى لا زالت تفكر بمنتهى العمق ..
مر الوقت سريعا كالعادة .. حتى حان ميعاد الاجتماع فانطلقت ..
-------
كانت صديقتها في ذات الوقت تنتظرها على باب الأوبرا على أمل أن تغير رأيها و تأتي ..
دقت الساعة السادسة .. السادسة و الربع .. السادسة و النصف ..
" آسفة إني اتأخرت"
تفاجأت بها وراءها .. فاحتضنتها في سعادة .. "كفاية انك جيتي"
أخذتها من يدها و دخلتا معا ..
جلسا في الكرسين المخصصين لهما .. و بدأ العرض الموسيقي ..
مضى الوقت بهما قليلا .. ثم همست لها صديقتها ..

"بس اشمعنى .. ؟"

"اكتشفت إني مش عارفة أنا عايزة ايه في اللحظة دي .. لكن عارفة كويس "أنا مش عايزة ايه"  "




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي