ليتها كانت لا تبصر




شارع مزدحم ، ضوضاء مزعجة ، كلاكسات لا تتوقف ...
 بخطوات سريعة أقرب للعدو تحاول أن تصل إلي آخر الرصيف لتدخل في شارع جانبي .....
ضربة تلقتها علي كتفها من آخر مسرع في الاتجاه المعاكس ، شتيمة قذرة تنهال من فمه عليها و علي عماها ....
" لعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثر ما خرج من فمه كذبا في وصفها "
 هكذا فكرت في نفسها ...
 ليتها كانت عمياء لا تبصر ، إن بلواها في الحياة أنها بصيرة بكل ما يجري حولها ...
أكملت طريقها و نهاية الرصيف تبدو بعيدة ... بعيدة و كأنها لن تصل أبدا ....
استوقفها طفل لا يجاوز الثامنة من عمره ، يغطي وجهه الأسمر النحيل أوساخ التراب ... لا تدري .. أم أوساخ الحياة ...
 و ندبة  بطول خده الصغير الجميل تشق قلبها و تترك بجانب الجروح الكثيرة جرحا جديدا لن يندمل كسابقيه ...
 بعينين ذاهلتين مليئتين بالدموع ظلت تحدق فيه و هو يتحدث بسرعة أمامها ، مادا يده للأمام للحصول علي ما عسي أن تجود به عليه ...
 لم تتحرك و ظلت ثابتة مكانها و كأنها فجأة وجدت نفسها في مواجهة مع نفسها ....
 أتغوص بيدها في عمق الجرح و تعطيه كما يعطيه الآخرين ..
 و كأنها فجأة اكتشفت أن ليس بإمكانها أن تمحو شقاءه ...
حتي و لو استطاعت أن تمسك هذه اللحظة من الزمن فتسعده ، فإن جذور الألم ستظل ضاربة في الأعماق بلا نهاية ...
فيه .. و في كل من يشبهه .. .
كان قد مضي من أمامها قبل زمن و لعله حسبها مجنونة ، و هي ما زالت زاهلة مكانها ...
انتبهت لرحيل عينيه الواسعتين من أمام ناظريها ، فعادت تتحرك بخطوات هزيلة ...
 و كأنها تجر قيود الشقاء .. .
قاربت من نهاية الرصيف لتدخل الشارع الجانبي الهادئ ...
عيناها اللامعتان بالدموع تحولتا للون أحمر قاني حتي تحسب أنهما تكادا تنفجرا ، و لكنها الآن أضعف من أن تثور ...
يداها تتشبثان بالسور بجانبها و هي تكاد الآن تزحف لتخرج بنفسها من ضوضاء الناس و صخبهم إلي الشارع الجانبي الهادئ ...
ليت احساسها كان متجسدا أمامها الآن لقتلته فورا و بلا تردد ... ما أشقاها باحساسها بشقاء الناس ...
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأنك توحدت مع الكون حولك ، و امتزجت بكل ذرة ألم سابحة في الفضاء....
كانت قد دخلت الشارع الجانبي الخالي من الناس و مشت خطوات فيه ...
 لا تدري ...
 أكانت من الناس .. أم من نفسها .. تهرب ...
للأسف هدوء الشارع و خلوه من الناس لم يسكت صرخات الألم الشقية في كيانها ....
باتت تشعر و كأنها جرح كبير مفتوح لكل سمة شقاء تلمحها علي أي وجه ، و كأنها تشعر بآلام الناس أكثر منهم ...
 و كأن كل تقطيبة جبين لكل شخص كان في الشارع المزدحم تحكي لها حكايات شقاءه و تفتح جراحا جديدة في نفسها ...
و كأن مجرد وقوف الطفل أمامها ، رأت فيه الطفولة السعيدة التي كان يستحقها و لم توجد ...
الفراش الوثير الذي لم يطله جسده اللين ، بل تكسر بدلا منه علي حجارة الرصيف القاسية ...
و نهش البرد القارص جسده الغض و كل في بيته دافئ ... .
في لحظة ما من الزمن ، تشعر و كأن رهافة الحس تكاد تقتلك و أنت لا تزال حيّ ... .
كل الناس تتأثر للحظات ، ثم تنسي الألم و تكمل حياتها لاهية عابثة ، إلا هي ... .
أحياناً ، لا تدري أقسوة الحياة و انشغال الناس عن بعضهم سخط الله أم نعمته عليهم ...
لا تدري ، أاحساسها بشقاء الناس حولها و رغبتها العارمة في تخفيف آلامهم و الحنو عليها و تطييبها ...
تلك الرغبة التي تنقلب عجزا أمام قسوة الحياة و ظلمها ...
 أهي رهافة حس و احساس بالناس يُحمد ، أم ابتلاء عليها أن تتعايش معه في كل لحظة ...
 ليتها كانت جامدة الحس مثلهم ..
لا تشعر إلا بنفسها ..
 و لا تري إلا حالها ..
ليتها كانت لا تبصر




الكاتبه || هـنـد حنفى ||

اترك خلفك كل شئ .. و اسمح لخيالك أن يتنفس .. اغلق عينيك .. تجاهل صخب الحياة .. احلم و ابدع و ابتكر .. و عش "هندي" .. من عالم آخر .. أنا هندية .. هند حنفي